"أكتب إليك، لأنك، وكل الكتاب المتنورين، تتحملين قسطاً كبيراً من المسؤولية فيما أعيشه الآن من تشرذم".
هكذا إستهل شاب، لم يكمل بعد الثامنة عشره من عمره، رسالته إلي.
يقول "أعيش هذه الأيام فترة عصيبة من حياتي. فبعد أن عكفت على قراءة بعض الكتب عن الأديان، ودراسة الكتب السماوية، وصلت إلى حقيقة أن الأسلام مثلاً، الذي رضعته منذ طفولتي كان ديناً بشرياً، عكس ما علمونا في البيت والمدرسة".
ويكمل" الآن انا لا أستطيع البوح بأفكاري لأحد... وأصوم مكرهاً".
"تعرفين كم هو صعب أن تعيش هكذا في محتمع لا يقبل أبدأ فكرة الإختلاف".
.."ولو أفصحت عما بداخلي... سيرجمونني، أو يقتلونني، إبتداءاً من البيت".
"اشعر بغرابة شديدة. أصبحت عنصراً شاذاً وسط جيش من الناس المتشابهي الأفكار".
---
الغربة في الوطن. لم اعرف اقسى من هذا الشعور.
تشعر أنك وحيد.
وتشعرين أن صوتك غير مسموع.
لا أحد يفهمك.
كأنك تتحدثين بلغة من كوكب بعيد قصي ... غريب.
وتصرخ بأعلى صوتك، تكاد حنجرتك تنفجر، ورغم ذلك لا يسمعك من حولك. كأن صوتك أخرس. كأن صوتك بلا صوت!
وصوت من حولك يقرع كالطبول على أذنيك، يردد اناشيد مكررة، بنفس النغمة، بنفس الكلمات، بنفس المضمون. ثم يلقنها لك، يدخلها في حنجرتك، يحشرها بين رئتيك، ثم يمسك بعنقك يصر عليك أن تغني معه... شئت أم أبيت. لا يهم. عليك أن تطيع. عليكِ أن تطيعي. عليكما أن تغنيا مع القطيع.
وكنتُ دوماً غريبة.
هادئة كالبركان. يغلي من داخله، لكن حممه لا تبدر من فوهته.
ولذا شعرت بالألم يعتصر روحي وأنا اقرأ رسالة الشاب المفكر. ذاك الذي قرر أن لا يكون نسخة مستنسخة. ذاك الذي قرر أن لايكون جزءا من قطيع.
بالله عليكما، هل نبدو أقوياء أم ضعفاء عندما نصر على من يختلف معنا، أن يكون كما نحن، رغماً عن أنفه.
هل نبدو أقوياء، أم مهترئين خائفين؟
تماماً كُحكامنا المستبدين. يمسكون بتلابيب أعناقنا بالقوة، لأنهم يدركون أن حريتنا ستكلفهم كراسيهم.
وبنفس النسق، حرية التفكير، حرية الإختلاف تبُشر بإنهيار المؤسسة الدينية التقليدية و قراءتها للدين التي تنتمي بجدارة إلى القرون الوسطى.
----
وهي، الصديقة الراقية، قصت علي فترة عصيبة مرت عليها وهي في وطنها سويسرا. فترة إحتاجت فيها إلى السكينة. إلى الله ومحبته. فكانت تذهب إلى بيوت الله من الكنائس. تذهب إليها، تضيء شمعة، ثم تجلس فيها. تبحث عن هدوء الروح... تبحث عن سكينة النفس.
قالت لي "كنت دوماً اشعر بغصة، غصة حارقة. لأني وأنا المسلمة، لا أشعر بأن المساجد المتواجدة لدينا هنا، تقبل بي كما أنا. تقبل بي كما أنا. إما أن أكون على صورتها، أو لا تقبلني".
"وأنا أبحث عن مسجد يقبل بي كما أنا. يقبل بي كإنسانة".
"أبحث عن ذلك المسجد. وأريد ذلك المسجد".
وتكمل"وفكرت فيك. تمنيت لو تمكنا من بناء مسجدٍ، مسجد جديد. يقبل بنا كما نحن. وتكونين فيه إمامة".
أما أنا فتأملت فيما قالته.
كان حلماً، ولا زال حلمي. أن نبني ذلك المسجد. ولن يفرق كثيراً إذا كان الإمام رجلاً او إمرأة. المهم أن يكون مسجداً يصلي فيه الرجل والمرأة معاً.
المهم أن يكون مسجداً يقبل بالإنسان كما هو.
المهم أن يكون مسجداً يحترم آدميتي، ثم حق الإنسان.
مسجد محبة.
مسجد سلام.
مسجد للإنسان.
----
بناء ذلك المسجد يحتاج إلى إسلامٍ جديد.
نعم.
إسلام جديد.
فالدين الذي أراه اليوم لا يحترم آدميتي. تماماً كما أنه لايقبل بالغير مع إختلافه.
ولأني أحب الله، وأحب الإنسان، فأن الدين الذي ابحث عنه هو دين لا يقصي الغير، ولا يكره الغير. تماماً كما أنه دين لا يدعو إلى الجهاد وقتل الأخرين بإسم الله. كالحروب الصليبية التي كانت تقتل بإسم الله في القرون الوسطى، ثم إستفاق بعض من كان يدعو إليها، فخرج إلى القرن الواحد والعشرين.
هو إسلام جديد. أقول "جديد" وأصر عليه.
لأن الترقيع والتجميل الذي دأبنا عليه منذ القرن التاسع عشر لم يفلح، ولن يجدِ.
إسلام لا يؤمن بالمسلمات. بمناطق محظورة على التفكير. ينظر إلى تراثنا بإحترام لكن مع قدر كبير من النقد. ثم يجرؤ على رفض الكثير منه، والبناء على بعض منه.
يدرك أن الإنسان في حاجة إلى الروحانية.
لكنه يدرك أيضا أن الدين إنما وجد من أجل خير هذا الإنسان.
ولذا فإنه يقبل بالإنسان كما هو.
يحترم حرية هذا الإنسان.
ويحترم قراره.
أنا أسميه إسلاماً إنسانيا.
هل تذكران؟
كنت قد وعدت بإكمال سلسلة من المقالات عنه، لكني توقفت في الصيف بسبب ظروف العمل.
فأعذراني.
لكني لم أنس.
لم أنس الوعد.
فالظرف الذي نعيشه اليوم في بلداننا في المنطقة يفرض علينا أن نبني التغيير الذي نشهده على أسس مدنية إنسانية تسمح بالإختلاف، ثم تسمح بالتعددية، كي نتمكن من بناء نظام ديمقراطي. كي نتمكن من خلق المستقبل.
والمسألة ببساطة تتلخص في عبارة واحدة: "الإصلاح السياسي لا يحدث دون إصلاح الدين. الإثنان يأتيان معاً."
ولذا فإن الصمت ليس خياراً. الصمت ليس طريقاً. الصمت تهلكة.
ولذا أكمل معكما حديثي عن العنصر الأول المكون للإسلام الإنساني، "الهوية إنسان".
موعدنا الأسبوع المقبل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق