الثلاثاء، 17 نوفمبر 2009

حملة الأربطة السوداء

الأسود لون الحياة، هل تذكرون؟
حياة إمرأة في شبة الجزيرة العربية.
حياة بلا ألوان، تغيب فيها البهجة، كما يُغيب الظلامُ النور.
حياة بلا حياة.
لا لون لا طعم لا رائحة. أية حياة حياتنا في شبة الجزيرة العربية؟
يقولون لها، للطفلة، للفتاة، للمرأة: "عيشي صاغرة، صامتة، مستكينة، متمسكنة، عيشي ثم أطيعي، وأياك أن تكوني.
"لا ترفعي صوتك، حذار من صوتك، خافي منه، كما تخافي من جسدك، إبلعي صوتك، فصوتك عورة، وحبذا لو قطعت لسانك كي لا نسمعه.
"عيشي بكماء، انت والخرس سواء، خرساء في وجودك، مكبوتة في كيانك، كأنك لا شيء، فتلة، بعوضة، قشة، او شيء،
شيء نفعل به ما نشاء، نحُركه، نرفعه، ننُزله، نُزوجه، نمارس معه الجنس غصباً، ونضربه، ثم نطلقه، أو نقتله نحراً وهو حي، او دفناً وهو ميت، و نلفه في سواد الخوف، سواد داخل سواد."
يكفنونها في سواد فكرهم ثم يناشدونها مبتهلين "حبذا لو دفنت نفسك حية!" ويهزون رأسهم معجبين. يالله، ما أغربهم.
"موتي. فحياتك موت".
وهي؟
هي لا تريد الصمت، تريد لسانها طويلاً، هل تسمعون، طويلاً، وتريد صوتها عالياً يفرقع بضحكاتها مرحاً. ولا تريد الموت والكفن، بل تريد الحياة، و تريد أن تحيا، تحيا بتعمد، كل لحظة، كل دقيقة، كل ثانية، تريدها حية، عامدة متعمدة، أن تحيا، كإنسان، له وجود، ويفخر بهذا الوجود. آه ما اجمل الحياة عندما نقدر على أن نعيشها.
لكنهم لا يأبهون لما تريد، بل يهمسون ليل نهار في إذنها : "أنت تابع، تابع، تابع، اسمعي واطيعي، ولا تجادلي، إياك وان تجادلي، فالجدل رجس من عمل الشيطان، اطيعي، وكوني نكرة."
ويقولون لها: "حذار حذار من جسدك، هو والشيطان رديفان، إلعنيه صباح مساء، ثم ضمديه بالسواد، واخفيه عن العيون كي لا تدنسه النظرات، ملعون ايها الجسد، ملعونة أنت ايضا يا من تحملين هذا الجسد، هذا الرجس، حبذا لو مسخت كيانك فأصبحت أنت والظلام سواداً".
شرنقة، يخنقونها بالسواد كي لا تتنفس، كي لا ترى، كي لا تفكر، كي لا تقرر، كي لا تكون إنساناً.
"وجودك مصيبة وكذلك جسدك، فحبذا لو اخترت السواد حياة، حياة بلا لون، لونها أسود!"
وهي؟
هي تحب هذا الجسد، وتريد أن تحياه هو الأخر، وتكره ان تكفنه، تريد ان تمزق تلك الأربطة والأقمشة السوداء من على جسدها، وتخُرجه ملوناً زاهياً، مبتسماً وفخوراً، من قال إن خلق الله فيه ما يخجل ويعيب؟ لاترى في كيانها الأنثوي جريمة، ثم لا تعتبر الجمال خطيئة، وتصر أن تفكر، تصر أن تقرر، تصر ان تختار، تصر ان تكون هي هي، لا أحد غيرها، ولي امرها، ولذا تتمرد. من قال إن التفكير خطيئة أيها البشر؟
لكنهم لا ييأسون، فيهسون من جديد "الله يقول إن السواد قدرك، الله يريد ان يدفنك حية، الله هو المذنب، فأقبلي بقراراه، الله"، وينظمون الحياة وفقاً لرؤيتهم هذه، يقولون ان الله هو الذي صاغها، الله هو الذي وضعها، ومن جادل حدُه السيف.
هل نلومها لو سمعت واصاغت ثم لبت واطاعت.
لكنها لا تصدق، أي والله لا تصدق. تُطيع قدراً وهي تقول: "آه كم من جرائم نرتكبها باسم الله؟" تحني رأسها قليلاً وهي تقول "من يصدق أن الله يقول هذا. رجال يقولون، ثم يقولون: الله هو الذي قال. أيُ رب يكون لو قال ذلك حقاً؟ ربٌ ظالم؟ سبحان الله ما أبجحهم".
الأسود لون حياتها. حياة بلا لون، حياة بلا إرادة.
لكن الأسود ايضا رمز للقوة، القوة لا غير.
رمز لقوتها. قوة المرأة عندما تتمرد.
قوة الصلد تخرج من صلب الصهد شهاباً.
لم اعرف لونا أقوى منه، يخرج لسانه لمن حوله ويقول ها أنا، كما أنا، لست لوناً، لكن هل من لون يغلبني؟ هل جربتم مرة مزج السواد بغيره من الألوان؟
قوي هو.
وقوته في تفرده.
كذلك إمرأتنا، إمرأتنا القوية.
تلك التي عندما تتمرد تُفزع من حولها، فيسارعون إلى خنقها وكتم انفاسها.
هل رأيتم كيف تمكنت الصحافية لبنى في السودان في إثارة ازمة تصدرت صحف العالم لأنها ببساطة رفضت ان تجاري قانوناً سخيفاً يمنع المرأة السودانية من إرتداء البنطال؟ لبني تمردت، وقالت لا. لم تفعل اكثر من أن استجمعت شجاعتها وقالت "لا"، قانون كهذا ينتهك ادميتي يجب أن يلُغي، فأصبحت مثلاً ونموذجاً. تمردت. ولم تخف.
وأمرأتنا القوية في السعودية فعلت الشي نفسه يوم التاسع من نوفمبر الجاري.
الكاتبة والناشطة وجيهة الحويدر وزميلاتها من الناشطات السعوديات قلن أيضاً "لا"، قلنها في ذكرى الأربعين إمرأة سعودية، الرائدات، اللاتي قررن في نفس اليوم قبل عشرين عاماً أن يمارسن حقاً طبيعيا تمارسه كل النساء في كل ارجاء العالم، قدن سيارتهن علناً في شوارع الرياض. ولأنهن جرأن، كان الثمن باهضا: قبُض عليهن، سحُبت جوازت سفرهن، وفقدن وظائفهن، والمخزي أن "أولياء امورهن" أضطروا أن يتعهدوا بأن تُحسن "نسائهن" السيرة بعد ذلك.
تلك الذكرى رمزية في دلالتها، لأنها تظهر واقع المرأة السعودية بصورة مختصرة: حتى لو كانت المرأة تنتمي إلى شريحة إجتماعية مثقفة أوأقتصادية مرتفعة، فإنها لحظة مواجهتها مع السلطات تتحول إلى "شيء يملكه رجل". رجل يتولى أمورها من يوم ولادتها إلى مماتها، رجل يقود سيارتها، رجل يزوجها، واخر يتزوجها، والشيء ينتقل من يد رجل إلى رجل أخر".
وجيهة الحويدر وزميلاتها قررن أن مثل هذا الوضع ينتهك ادميتهن، وتمردن. قلن ببساطة "لا"، وعبرن عن موقفهن بإسلوب سلمي كله حب. لم يفعلن اكثر من أن ارتدين اربطة سوداء حول رسغهن، وناشدن غيرهن وغيرهم ان يفعلوا الشيء نفسه. وعندما فعلن ذلك، كن يدركن أنهن بأسلوبهن السلمي إنما يخاطبن الإنسان في من حولهن، حتى لو كان ضدهن. تماما كما فعل غاندي، تماما كما فعل مارتن لوثر كنج.
لم يخفن من اللعن والشتائم، ذاك قدر من يجرؤ على المطالبة بالتغيير.
لم يدارين وجوههن في السواد.
بل رفعن ايديهن بالرباط الأسود.
حياة بلا لون، لونها اسود.
وقوة تخرج من رحم التمرد، رمزها الأسود.
كم منا يقدر على ما تفعله وجيهة وزميلاتها من الناشطات السعوديات؟
عن نفسي أرتديت رباطاً اسوداً، وارتديه إلى يومنا هذا، فالحملة بدأت في التاسع من نوفمبر الجاري، وهي مستمرة.
وابنتي، إبنة العاشرة، ارتدته أيضاً واقنعت زميلاتها في المدرسة، تلميذات سويسرات في الصف الرابع الأبتدائي، اقنعتهن ان يرتدين تلك الأربطة تضامناً مع اخواتهن في السعودية.
وأنا ادري أن ما أفعله رمزي مقابل ما تفعله وجيهة وزميلاتها من داخل المملكة.
لكن، تخيلوا لو ان كلا منا ارتدى رباطاً اسوداً تضامنا معهن، الن تصل الرسالة إلى صاحبها؟
أحلام يقظة؟ بعضكم يبتسم من جديد.
وأنا بدوري أبتسم، وارد: "نعم، لكن من حقنا أن نحلم".
إلهام مانع

الاثنين، 2 نوفمبر 2009

الكيل بمكيالين

نعيب على الولايات المتحدة أنها تكيل بمكيالين عندما يتعلق الأمر بإسرائيل.

وقولنا صحيح.

نعيب عليها .. وننفر،

ونزعق،

ونجعر بأصواتنا عالية، نشير بأصابعنا العشرة إليها، "أنظروا، هاهي تفعلها من جديد"، "الظالمة"، "الناكرة"، "المخادعة".

نعيب عليها وننسى أن نعيب على أنفسنا.

ألا نفعل الشيء نفسه؟

نكيل بمكيالين، وأحيانا بثلاثة وأربعة.

وعلى حين تُقدم الولايات المتحدة على هذا الفعل عندما يتعلق الأمر بأمن إسرائيل أو بمصالحها كقوة عظمى، فإننا في المقابل أتقنا فن خداع النفس بمناسبة وبلا مناسبة.

أصبح دمنا الذي يجري في عروقنا، والهواء الذي يملأ صدورنا،

أصبح المرآة التي نحدق إليها،

لأننا لا نطيق أن نرى أنفسنا كما هي.

لا نريد أن نراها.

نعيب على فرنسا أنها فرضت على طالبات المدارس من المسلمات خلع غطاء رؤوسهن، وننسى أن الأقليات الدينية لدينا تعاني الأمّرين من سلطان الدولة.

ما رأيكم لو تصفحتم التقارير السنوية لمنظمات حقوق الإنسان عن أوضاع الحرية الدينية في البلدان العربية؟

ستشيحون بأوجهكم، ثم تلعنون: "هاهي مؤامرة جديدة من منظمات الحقوق "الغربية". لكنكم تشدون في الوقت ذاته على أيدي هذه المنظمات "الملعونة"، يوم استماتت في الدفاع عن حقوق هذه الطالبات.

هل يستطيع أي مسلم أن يعلن تغيير ديانته دون أن يواجه عقوبة الإعدام؟ الإعدام لإنسان أراد أن يختار الدين الذي أراده!

أليس هذا حقه؟

ونقول "هذا شأننا". "ما لكم وشأننا".

ثم نلعن سنسفيل فرنسا "الفاجرة"، تلك التي أوهمتنا أنها مهد الحريات.


وهللنا.

هل نسيتم كي أذكركم؟

هللنا يوم فاحت فضيحة سجن أبو غريب.

وهي فضيحة بلا جدال.

لكنا شمتنا وفرحنا، كدنا نخرج من جلودنا ابتهاجاً، وصرخنا بأصوات نافرة "أنظروا ماذا فعلت تلك المدافعة عن حقوق الحريات في العالم"، "أنظروا كيف انتهكت حقوق العراقيين الغلابة.. العراقيين المساكين.. يا حسرة على العراقيين، يعانون الويل تحت ضيم المحتل".

وتناسينا ما فعله معصوم الذكر صدام حسين مع هؤلاء العراقيين. ختمنا على عقولنا ومسحنا شريط ذاكرتنا بأستيكة من العيار الثقيل.

كل فينة وأخرى تخرج علينا أنباء عن اكتشاف مقابر جماعية لهؤلاء العراقيين، نسمع، ونهز رؤوسنا مستنكرين، ثم نصمت.

نصفر، أو نغني، وربما نشخر، ثم نتمتم " دعونا من هذه التفاصيل. ما مضى قد مضى".


وقبل ذلك،ِ يوم كان لا زال جاثماً على قلوب العراقيين، كنا نسمع عن المذابح التي أرتكبها ضد الأكراد، كنا نسمع عن المساجين السياسيين الذين يسومون ألوان العذاب والتنكيل في سجونه، وكنا نسمع عن النساء التي تنتهك أعراضهن من قبل نخبة الرئيس صدام، نسمع عن كل ذلك، ونبرر له: "لا يمكن حكم بلد كالعراق إلا بالسيف والنار"، نقول ذلك ونحن نصفق له كالبلهاء، فرحين بالرجل الذي "صمد ووقف أمام الغرب".

نسينا ذلك، تماماً كما نسينا ملفات حقوق الإنسان لدينا في العالم العربي، تلك التي يندي لها الجبين. لكنها تلاشت فجأة من أذهاننا، كأنها كانت ضرباً من خيال، لم يعد لها وجود.

ولو جاء من يذكرنا همساً: "لكن أليس واقع سجوننا أسوأ مما كان حادثاً في سجن أبو غريب؟"

تخرج ألسنتا من أفواهنا محشرجة الصوت: "أمرك غريب، وهل تقارننا بها يا أخي؟"

لا يهم أن واقعنا أسوأ، لا يهم أن قيمة الإنسان لدينا لا تزيد عن ثمن بعوضة، لا يهم كل ذلك.

المهم هو إن نشفي غلنا في الولايات المتحدة، "تلك القوية الملعونة"، تلك التي "انتهكت حقوق الإنسان".


خداع الذات لدينا متعة، وفن.


نقول إن الإسلام واحد،

ثم نتأفف من الشيعة،

نمتعض منهم،

ونشيح بوجوهنا عنهم وعن "ممارساتهم"،

نمصمص شفاهنا كلما احتفلوا ب"شعائرهم"، ونقول بهّسٍ فحيح: "ليسوا مسلمين فعلاً، يكادوا أن يكونوا مشركين"!.

ثم ندني شفاهنا أكثر إلى أذاننا ونحن نوشوش أنفسنا "كانوا دائماً طابوراً خامساً يعين الفرس علينا".

نقول ذلك، وندير أعيننا مؤكدين إن الإسلام واحد.

لكننا لا نتألم كثيراً أو نتوجع لأوجاعهم.

لا نبكي مع الشعب العراقي كلما فجر إرهابي نفسه بين جموع من شيعة العراق.

هم "ليسوا بشراً فعلاً"، "ليسوا مثلنا"، "كما أنهم ليسوا منزعجين كثيراً من وجود ذلك المحتل البغيض"، "الخونة".

أليس هذا لسان حالنا؟

تخيلوا معي إذن كيف كانت ستكون ردة فعلنا لو أن ضحايا حادثة الجسر كانوا من السنة العرب؟ هل كنا سنصمت عن العزاء كما فعلت معظم الدول العربية، صمتت وهي تهرع في الوقت ذاته مهرولة إلى مواساة أميركا "المحتلة البغيضة" في ضحايا إعصار كاترينا؟


خداع الذات هي ورقة التوت، تلك التي نغطي بها عورتنا.

عورة الخجل من أنفسنا ومن واقعنا المزري، عورة الإحساس بالضآلة والضعف أمام "الآخر"، وعورة الخوف من أن نسمي الأشياء بأسمائها.

عورة لا نريد أن نراها.

ولذلك نلوذ بأصابعنا العشرة،

نرفعها في وجه "الآخر"،

نلعن سنسفيل أجداده،

ثم نتنهد.