السبت، 29 أغسطس 2009

ولي أمري أدرى؟

والله، أني كدت أبتسم.
لكني إحترت كيف أبتسم؟
ثم قلت لنفسي، إن الإنسان هو الإنسان.
في حكمته أو ضعفه.
هنا أو هناك.
لا فرق.
فعُدت عن الإبتسام، وتفكرت.


بعض السيدات السعوديات، تفتقت قريحتهن.
أردن أن يأخذن موقفاً من الحركة المدنية الناشطة الداعية إلى منح المرأة السعودية بعضاً (وليس الكل) من الحقوق التي تتمتع بها نظيراتها من النساء العربيات. فخرجن علينا بحملة عنوانها "ولي أمري أدرى بأمري".
فتحولت حملتهن إلى مادةٍ للتندر.
هل نلومهن؟ كل ما أرادوه هو أن يكّحلوا واقعا، لا يعرفوه، فزادوه عمى.
وفي الواقع سيكون غريبا أن نتوقع منهن امراً لا يفهموه. ففاقد الشيء لا يعطيه، كما تعرفون.


معظمهن ينتمين إلى الطبقة الإرستقراطية السعودية.
ورئيستهن أميرة.
اياديهن مخملية. ويعشن في القصور والفيلات. فهل نلومهن إن جهلن واقع المرأة السعودية؟


سيدات الحملة خفِن على نساء المملكة. خفِن على النساء من النساء.
من ناشطات سعوديات، يعشن يوميا واقع المرأة في شرق المملكة وغربها، في شمالها وجنوبها. يعرفن كيف تعاني، يعرفن كيف تعيش مذلة يومية.
لسن اميرات. لحسن الحظ.


ويؤمن أنه من حقهن أن يعاملن كإنسان بالغ راشد.
إنسان.
ليست طفلة المرأة.
ليست قاصر المرأة.
وليست عاراً نغطيه.
ناشطات تعبن من واقع المعاناة والمذلة اليومية.
فطالبن بإلغاء مبدأ الوصاية على المرأة السعودية.


لم يستغربن أن بلدهن هو البلد المسلم الوحيد الذي يمنع المرأة من قيادة السيارة. الا يبدو غريبا ً ان تنفرد السعودية بهذا المذهب الغريب؟ لكنه كان دوما غريبا.
لم يتساءلن لم ينفرد وطنهن بين البلدان الإسلامية، بأن زاد الخناق على المرأة فيه ألف ضعف، فأصبحت المسكينة لا تتحرك دون إذن من ذكر، لا يميزه سوى عضوه الذكري.
فأصبحنا نرى إمرأة في العشرين، ينهرها اخاها إبن العاشرة.


ولي أمري أدرى بأمرها؟
بالله عليكن؟


لم يستغربن أن المرأة في بلدهن لا تستطيع ان تتحرك شبراً دون إذن من وليها. لا يحق لها أن تخرج من بيتها، أن تدرس، ان تذهب إلى المستوصف... دون إذن من ولي أمرها.
وولي أمرها هو أبوها أو اخوها أو أي ذكر في عائلتها حتى تتزوج. ثم يصبح ولي أمرها زوجها حتى يموت أو تموت. يزوجها وهي في العاشرة، يضربها، أو يعنفها، أو... يُحسن معاملتها. هي وحظها.
كالبطيخة، قد تكون ناضجة حمراء تنز حلاوة، أو تعثر، فتكون مُرة، حامضة، مقيتة كالقطران.


يعشن اميرات. والقيود التي تخنق المرأة العادية كل يوم، لا تطبق عليهن.
هل واجهن يوماً رجلاً من هيئةِ كتم أنفاس الخلق؟ لو وقع نظر رجل من الهيئة علي واحدة منهن، لتوارى خوفاً.
فالدين كما تطبقه الهيئة لا يعترف إلا بالقوة. قوة ولي الأمر.
أين من رجالها والدين؟


ولي أمري أدرى بأمري؟
بالله عليكن؟


لم يستغربن. لم يتساءلن.
بل إنزعجن، بسذاجة يحُسدن عليها، تذكرنا بسذاجة ماري إنطوانيت، من مطالب من أحترقت ايديهن بنار الواقع اليومي للمرأة السعودية.
فبعثن برسالة إلى العاهل السعودي، يدعونه إلى الثبات على الظلم.


"من قال إننا في حاجة إلى حقوق؟"
"لا نريد حقوقاً تتنافي مع عاداتنا!"
"كف أيديهن عنا!"
"أقطع السنتهن!"
"ثم أخرس أصواتهن!"
"دعنا كما نحن!"
"كائن في درجة أقرب إلى الحيوان! (مع إحترامي للحيوان)"

والمدهش، أني لم أندهش. لم أندهش من الحملة.
اتعرفن لماذا؟
لأن تاريخ الحركات النسائية المطالبة بحقوق المرأة في كل أرجاء العالم، كان مليئا بحملات شبيهة بحملة "الرجل أدرى بأمري" هذه.
مقابل كل إمرأة ناشطة طالبت بحقوقها، وقفت اكثر من إمرأة تلعنها، بإسم العادات، بإسم التقاليد، وبإسم الدين (أيا كان هذا الدين)، وتُعيب عليها سعيها إلى التغيير.
ليست غريبة هذه الحملة.
تشبه حملة أخرى قامت بها نساء سويسريات في العشرينات ثم في الخمسينات والستينات ضد االمطالبات بحق المرأة في التصويت. هن أيضا لجأن إلى الدين والعادات والتقاليد كذريعة تقف أمام التطور.


حتى في هذه لسنا فريدين.
فالإنسان كما قلت من قبل هو الإنسان.
في حكمته، وقوته.
وفي ضعفه وسذاجته.
هنا أو هناك.
لافرق.

لكن ولي أمري، ليس أدرى بأمري.
فأنا الأحق بشأني.
والأدرى بأمري
حتى وأنا أحني رأسي إجلالاً لأبي.

وصاحبات الحملة يصررن على البقاء قاصرات.
ذاك شأنهن.
لكن من قال إنهن يتحدثن بإسم المرأة السعودية؟

طريق التنوير

هل تذكرون عندما قلت لكم في مقال سابق أني كدت أبتسم من حديث شيخنا الزنداني؟

قلت لكم: “كدت أبتسم”.

لم أقل: “ابتسمت من حديثه”، بل قلت “كدت”،

و”كدت” تضفي على الفعل بعداً غير كامل.

وكان اختياري للفظ متعمداً.

لم أبتسم ساخرة لسبب بسيط هو إدراكي أن ما يقوله الشيخ الزنداني يلقى صدى شعبياً واسعاً.

فكر الشيخ السلفي، وهو فكر ظلامي يعيدنا قهراً إلى قرون ماضية، لا يؤمن بالإنسان، ولا يحترم إرادته، كما لا يؤمن بقبول الغير أياً كان هذا الغير، ناهيك أنه لا يقبل بالمرأة إلا إذا كانت مكفنة، تسمع وتطيع، ولا تملك قرار نفسها، هذا الفكر يتفشى ويلقى القبول على أرض الواقع من قطاعات واسعة من مجتمعنا.

وهذه القطاعات الشعبية لا تفعل ذلك لأنها تريد أن تكون ظلامية التفكير.

أغلبُها يعيش على سليقته،

أغلبُها طيب القلب.

تفعل ذلك لأنها تعتقد أن ما يقوله الشيخ من الدين.

تعتقد ذلك جازمة.

وشعوبنا، يمنية كانت أم عربية، ضعيفة أمام من يرسل لحيته، ويتحدث باسم الدين، ترتعش أمامه، وتنتظر الكلمات أن تخرج من بين شفتيه كي تصدق.

شعوبنا تحب الله،

تبحث عنه بصدق،

وتريد أن ترضيه،

الله لا الشيخ،

ومادام الشيخ يقول “هكذا قال الله”، أفلا يجب عليها السمع والطاعة؟

هل نلومها هي؟

بل نلومه هو، ونواجه فكره، ذاك الذي ينشره بأموال كثيرة وعزيمة لا تكل.

هي معركة فكرية، نتائجها ستحدد من نكون، وما نكون.

لكن كيف ندخلها؟

هذا هو السؤال، وهو سؤال كما لا يخفى عليكم سبق أن طرحه على أنفسهم أسلاف لنا في القرن التاسع عشر، وحاول البعض الرد عليه في بدايات القرن العشرين، ثم انقطعت ألسنتهم، فلم نسمع لهم حساً بعد ذلك.

لكنه سؤال لا نستطيع أن نتفاداه أكثر من ذلك.

سؤال أصبح الرد عليه واجب، لأنه ببساطة سيحدد مصيرنا “إما أن نكون أو لا نكون”.

والرد عليه يستلزم أن نضع أصبعنا على موطن الجرح، وجرحُنا في الوطن!

الوطن لا غيره.

مشكلة الوطن أنه لم يكن ابدأ وطناً لنا.

كان ولا يزال وطناً أعرج، يمشي بين بين، لا يحمي حقوق مواطنيه، لا يسعى إلا متعباً إلى تنمية واقع مجتمعه، ولا يعبر في الواقع إلا عن طموحات أقلية، تبتلع ثرواته ولا تترك للغالبية إلا الرذاذ.

وطن أعرج.

نمشي معه خائفين.

نمشى معه غير آمنين.

نمشي ونحن ندعوه أن يرحم، فلا يرحم.

لم يعرف أبداً النهضة التي كان الحالمون يمنون أنفسهم بها.

لم يعرف أبدأ الإصلاح كما أراده المصلحون.

لم يعرفها لأنها ببساطة عندما بدأت أجُهضت!

بدأت في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، مع شيوخ من أمثال الشيخ محمد عبده ومفكرين من أمثال طه حسين، حاولوا أن يضعوا أسساً جديدة لفكر عقلاني.

ثم لم يكملوا حديثهم.

صمتوا.

أو أصُمتوا.

مد الفكر “القومي” كان كاسحاً.

هديراً أصم الآذان.

فكر يقوم على مبدأ “عرقي”، يقول ب”عروبة” مواطنيه، شاءوا أم أبوا، ويفرضها عليهم كأساس للمواطنة.

لم يؤمن بالحرية، ولم يؤمن بالإنسان.

بل آمن بنفسه.

فصدقته الشعوب فرحة.

كان زمن الأحلام. هل نسيتم؟

نحلم حتى وإن كان الحلم ضريراً..

“سنكون شعباً واحداً، ونحيا رافعي الرأس، ونحتل موقعنا من جديد بين الأمم الراقية”، هكذا كان الحلم.

لكنه كان حلم هرولة.

لم ينجح في الواقع إلا في تأصيل نمط الاستبداد في أنظمتنا السياسية. تحولت كلها إلى ملكيات، جمهورية كانت أو وراثية.

يا خيبة الإنسان.

وخرجنا من مرحلته لاهثين، مذهولين، صفر الأيدي.

وأفقنا على فراغٍ سارع الإسلامُ السياسي إلى ملئه.

اليوم ومع انتشار مد الإسلام السياسي نستشعر وخز الفراغ الذي نعايشه فكراً.

نستشعره لأن فكر النهضة الذي كان يجب أن يُترك لمساره كي يتطور أُجهض.

جنين لم يكتمل.

وطننا لا زال مسخاً مشوهاً لا يعرف ما هويته.

وطننا لا زال أعرجاً، يمشي بين بين، لا هو مدني ولا هو ديني.

وطننا لا زال يبحث عن الفكر الذي يؤسس لوجوده.

وشعوبنا ممزقة تريد أن تحيا، ولا ترى أمامها إلا فكراً يدعوها إلى الموت وهي حية.

وواجبنا أن نقدم لها البديل.

والبديل لا يمشي أعرجاً.

بل على قدمين.

مساران متزامنان يلتقيان ليقدما البديل.

الأول يستلزم فرضاً فصل الدين عن الدولة.

كي تكون دولتنا مدنية، محايدة، قادرة على حماية حقوق مواطنيها، كي تتعامل معهم على قدم المساواة، يجب أن تكون علمانية.

فالدولة ليست كياناً إنسانياًً كي نقول “دين الدولة هو الإسلام”، بل مؤسسة هدفها حماية حقوقنا.

تمعنوا في الكلمات.

مؤسسة وهدفها حماية حقوقنا.

وكي تحمينا عليها أن تتعامل معنا من موقع محايد.

مطلبٌ لا يعيب.

ليس فيه ما يُخجل.

لأنه ببساطة يعيد الدين إلى موضعه الطبيعي، إلى الحيز الشخصي.

تؤمن به أو لا تؤمن، ذاك شأنك الخاص.

والدولة تحمي حقك في أن تكون كما تشاء.

ذاك المسار الأول.

المسار الثاني يوفر الأساس الفكري للأول، فهو الذي سيحدد مصيرنا في الواقع، بدونه لن يكون للأول معنى.

بدونه سيتكرر ما حدث في تونس، فهي علمانية لكنها مستبدة رغم ذلك.

والسبب ببساطة أن نمط الاستبداد، الأصيل في أنظمتنا، قائم جوهراً على تراثنا الفكري الذي ظل عصياً على النهضة.

لا يكفي أن تعمد إلى فصل الدين عن الدولة، ثم تؤسس كيانك المجتمعي في الوقت ذاته على فكر ديني لم تمسه يد الإصلاح.

إصلاح الدين هو المسار الثاني.

وإصلاحه يجب أن يكون جوهرياً.

يدخل إلى اللب.

لا يكتفي بالقشور.

لا يكتفي بالترقيع والترميم.

بل يبدأ بطرح الأسئلة الجوهرية.

يبدأ بالبحث في طبيعة النص الديني نفسه، قرآنيا كان أم سنياً، والفصل بينه وبين الإيمان بالله، كي نتمكن من دراسته والبحث فيه ضمن إطاره التاريخي، دون خوف، دون رعب، ودون شبح التخويف بأننا ننال من المقدس.

لا إصلاح حقيقي للدين دون مواجهة هذا البعبع.

بدونه لن نتمكن من وضع أساس فكري جديد يحترم الإنسان وإرادته.

بدونه نظل نلف وندور حول أنفسنا، كما نفعل منذ قرون، نخشى أن نواجهه، ونفسح في الوقت ذاته المجال للفكر الديني السلفي، بكل جهله وخرافاته، كي يزيحنا هو من وجهه، ويستفرد بالعقول.

وقد كاد أن يفعل.

و”كاد” يضفي على الفعل بعداً غير كامل!

وطن أعرج،

وبعبع يخيفنا جميعاً.

الوطن نبنيه كي نتنفس فيه،

والبعبع نصرخ فيه “لست سوى بعبع” رغم الفزع.

نسعى إليهما حافين،

نسعى إليهما مخلصين،

بالعقل، بالفكر، وبالكلمة،

كي نحيا،

كي نحيا،

ولو بعد قرون

السبت، 8 أغسطس 2009

وجه الله... وجه غاضب؟

ومنذ متى كان الله كارهاً لخلقه؟
تساءلت، وأنا استمع إليها.
ووالله، أني احترقت، وأنا اردده.
وها أنذا أعيد السؤال إليكما: منذ متى كان الله كارهاً لخلقه؟
فتمعن، ثم تأملي، قبل أن تردا!


محدثتي كانت صحافية ماليزية، هندوسية الديانة.
إلتقيتها على هامش مؤتمر "تعلُم الحياة في عالم متعدد الثقافات"، الذي عقد في Caux في سويسرا بين الخامس والتاسع من يوليو الماضي، والذي رعته منظمة المبادرة من أجل التغيير.


كانت تحدثني عن مايحدث في ماليزيا. كانت تحدثني عن ألمها.
عن التغيير الذي يحدث في بلدها... تغيير أَثر على حياتها، وحياة غيرها. وكانت تقص علي حكاية عرفتها من بداياتها، لأنها القصة نفسها التي تكررت فصولها في بلداننا العربية بدءا بمصر، مروراً بسوريا، واليمن،...، وبلدان المغرب العربي.


محدثتي قالت لي إنها كانت تحيا في منطقة، سمُتها التعدد. منطقة هي بؤرة مصغرة لماليزيا. وكما تعرفون، دولة ماليزيا تجمع بين قوميات وديانات متعددة. نصف سكانها مالاويون يدينون بالإسلام، ثلث السكان ماليزيون من أصل صيني، ومعظمهم يدينون بالبوذية، ونحو 7% ماليزيون من الهنود يدينون بالهندوسية أو المسيحية، إضافة إلى جماعات سكانية تنمي إلى إصول تايلاندية أو إندونيسية.


محدثتي قالت لي إنها في الماضي كانت تعيش مع مواطنيها من الماليزيين في وئام ومحبة .. إلى حد. لأنهم، كانوا يتعايشون معاً، ولا يتزاوجون فيما بينهم.
في كل الأحوال، وعلى الأقل، كانوا يعيشون معا، كلٌ ودينه، ويختلطون ويتزاورون. وكان التسامح سمة الحياة.


ثم هبت رياح التأسلم الشعبي، حركته جماعات إلاسلام السياسي. تماما كما هبت تلك الرياح في بلداننا العربية، وغيرت من طابعها. نراه اليوم من جديد في بلدان جنوب شرق آسيا.
فأقتلعت المحبة والتسامح من جذورها.

محدثتي قالت لي إن الزيارات التي كانت يومية مع جاراتها وصديقاتها من الماليزيات المسلمات تباعدت... فأصبحت إسبوعية.
ثم تباعدت أكثر فأصبحت شهرية.
ثم أنقطعت.
وقبل أن تنقطع، عادتها بعض من تلك الصديقات. قلن لها إن الأئمة الجدد في المساجد يحذرونهن من الإختلاط بمن لا يدين بدينهن. وأنهم أكثروا من النصح، بكلمات تنز بالكراهية، قالوا لهن:"لا تودوا من لا يدين بدينكن. أقطعو صلة المحبة والود. وحبذا لو أضمرتن لهن الكراهية في القلب".


ولأنهن ظننَّ أن الأئمة في مساجدهن يحدثونهن بحديث الله، صدقن ما يقولونه. وكما تعرفون، فإن بعض الظن إثم.
خفن، فأبتعدن، حتى أنقطعن عن صديقتهن الماليزية الهندية الأصل، الهندوسية الديانة.

فعاد السؤال إلى من جديد: ومنذ متى كان الله كارهاً لخلقه؟
لا أقول ذلك بأريحية من يقتنع بتفوق دينه، كما يفعل الكثير من مفكرينا المسلمين.
كأنه يتصدق على خلق الله، بمحبة الله أو كراهيته.
بل أقولها لأني على قناعة أننا جميعاً نقف أمامه سواسية.
مسلمون، مسيحيون، يهوديون، بوذيون، هندوسيون، ملحدون. كلنا خلقه.

الله المحبة. هكذا تصورته دائما. نوره المحبة.

أما الله الذي يصوره لنا الفكر الديني السلفي، فهو لا يزيد عن رجل غاضب. هكذا يصوره لنا.
رجل غاضب، وجهه مكفهر، متجهم، كئيب، كئيب. لا يحب. بل يكره.
ونخافه. أي والله نخافه، يقولون لنا أن نخافه، فترتعد فرائصنا منه، هو ومعه الموت.
فلا نأمن له.
كأنه صورة مجسدة لمن يروج للفكر السلفي نفسه.
الله المحب، لا وجود له ضمن هذا الفكر.
لا يحبنا. وفي الواقع لا يحب لنا الخير.
فهو عندما يحبنا يَمن علينا بالبلايا.
هل تذكرون تلك العبارة التي مافتئوا يكررونها علينا:"إن الله إذا احب عبداً إبتلاه!"
يقولون لنا إن الله عندما يحبنا يكرهنا!! فيتصدق علينا بالبلايا!! بالله عليكم، هل نريد حبه بعد هذا؟

ومع الوجه المكفهر للرحمن الذي يصورونه لنا، كذلك الدين الذي يدعونا إليه.
دين لا يحب الحياة. بل يدعونا إلى الموت، وإلى الموت ونحن نحيا.
دين لا يؤمن بالجمال في الحياة. بل ينفر من كل ما هو جميل في الحياة.
لا يؤمن بالحب، بالفن، بالغناء، بالموسيقي، بالرقص، والرسم... لا يؤمن بالجمال.
تخيلوا: نغمة موسيقية جميلة، نطرب لها، نهز رؤوسنا معها، فينعق علينا صائح، "الموسيقي حرام". لا يؤمن بالجمال بل يصر على القبح، الظلام، الكراهية، ثم الموت.

أريد صورة للرحمن "طبيعية".
يحبنا، ونحبه.
لانخافه.
بل نحبه.
ليس بعباً، نخيف به الأطفال، فيصابوا بالكوابيس، ويبللوا أسرتهم ليلاً.
وإريد ديناً، لا يدعو إلى الموت في الحياة. بل يدعونا إلى الحياة، ومحبتها.
فأنا أريد أن أحيا. وليس في الحياة، أو محبته، ما يعيب.


هذه رؤيتي للرحمن، وهذه رؤيتي للدين كما أمارسه. قد تتفقون معها، وقد تختلفون. وفي كل الأحوال سأحترم موقفكم.



لكن، عندما يتعلق الأمر بعلاقة الإنسان بغيره من البشر، عندما يتعلق بالعلاقة مع الماليزية من أصل هندي، ودياناتها هندوسية، رجوتكم، رجوتكم كثيراً، أن لا تقحموا الدين في الموضوع.
وأنا اعني هذه العبارة كما فهمتموها.
لا تُدخلوا الدين في علاقة الإنسان بالإنسان، سواء كان هذا الدين داعياً إلى المحبة أو الكراهية.
بكلمات اخرى، حتى لو جاء إنسان يدين بالمسيحية، في صورتها المتسامحة (فالتطرف في كل الأديان كما تعرفون)، ليقول لي إن دينه يدعوه إلى محبة غيره من غير المسيحيين، فإن موقفي سيظل حذرا من مثل هذا الحب. فكما احبني لأن دينه يقول له ذلك، فهل سيكرهني لو دعاه دينه إلى الكراهية؟
هما وجهان لعملة واحدة. سلوكٌ يتحكم فيه فكر ديني.
وأنا لا أريدها محبة دينية.
بل إريدها محبة إنسانية.

أخرجوا الدين من تعاملنا مع الإنسان.
لا تحبوا إنساناً أو تكرهوه لدينه، أو لأن دينكم يقول لكم بالمحبة او الكراهية.
بل إقبلوا الإنسان كما هو.
مجرداً.
هكذا.
إنسان.
لو كان فعله خيرا، أحببته. وسأحبه، لا اسأل هل هو بوذي، هندوسي، ملحد، مسلم، مسيحي، أو يهودي.
ولو كان فعله سيئا، ابتعدت عنه. ولن أسأل.
لكني لن انقطع عن زيارة جارتي، لأنها هندوسية الديانة.
ولن اكف عن تحيتها ومعايدتها في الأفراح والأحزان، لأنها تؤمن بألهة متعددة.
ما تؤمن به شأنها، مادام لا ينتهك حقوقاً إنسانية.
وما يربطني بها هوية هي الأسمى: هوية الإنسان.

وكما أن الله لا يكره خلقه، كذلك الإنسان لا يكره نظيره.

ولذا، اعود، لأقول لكم، هي الحكاية نفسها تتكرر فصولها، نراها اليوم في ماليزيا وإندونيسيا، كما تابعناها صامتين، في بلداننا العربية، تكتب سطورها رياح الاسلام السياسي، و لن يقف في وجهها، ويتصدى لها غير إيمان الإنسان.. بهوية الإنسان.