الجمعة، 29 يناير 2010

لأن الأمة لم توجد قط!

"كلما جاءوا إلى الدكان، تخاصمنا!"
قالها لي منزعجاً. قالها لي متألماَ.
وأبنتي تسألني، لم يشترون من دكانه ما داموا يتخاصمون معه كل مرة؟ وسؤألها في الواقع هو المحك.
مُحدثي يعمل في مطعم صغير لبيع ساندوتشات الدونّر كباب التركية، تشبه الشوارمة، لكن كمية اللحم فيها مخيفة، قنبلة من السعرات الحرارية، لكني أحبها رغم ذلك. أذهب وإبنتي إليه من وقت إلى أخر. فنتحادث. فمادام لساننا عربياً، سيكون من الغريب أن لا نتحدث.
ومُحدثي شاب عراقي. عراقي شيعي. هرب من جحيم الحرب في العراق، عندما كانت الحرب المذهبية لا زالت مستعرة. عراقي سني يقتل عراقي شيعي، وعراقي شيعي يقتل عراقي سني. وهو على قناعة أنه على الرغم من كل الأزمات التي حدثت في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين الديكتاتوري، فإنها تظل أفضل ألف مرة من حكم الرئيس السابق صدام حسين.
محدثي هرب من الموت والحرب. لكنه يظل مصراً على موقفه. هكذا يشعر.
ومن يخاصموه عرب. هكذا وصفهم. سنيون. هكذا وصفهم. يأتون إليه كل مرة، كي يتخاصموا معه. يشترون الساندويتشات، يدفعون ثمنها، ويلعنونه وهم يفعلون ذلك!
لكن، إنتبها لما أقوله الآن، خصامهم كان حول وصف الحرب ب"المذهبية". مخاصموه يصرون أن "أمريكا هي التي زرعت الفرقة والمذهبية في العراق"، وأنها "اشعلت الحرب المذهبية أو الطائفية عامدة متعمدة"، و"ان المذهبية طاريء جديد علي المنطقة".
وينزعجون منه دائما، ويودون دوماً لو يخنقوا صوته عندما يقول "كنا دوما منقسمين"، و"أمريكا ليست من زرع المذهبية والطائفية"، بل "كانت دوما فينا"!
هذه قراءتان للتاريخ. قراءة "مخاصمي محدثي"، تصف موقف اغلبية في المنطقة العربية، تصر على أن تقرأ التاريخ بعيداً عن الحقائق التاريخية لما حدث فعلاً على أرض الواقع. والثانية، قراءة محدثي، التي تعكس رؤية لأقلية أو أغلبية مهمشة تعرف دوما أن الأنقسام كان موجوداً، وأنه لم مزروعاً من قوى خارجية، بل هو خصيصة تميز هذه المنطقة ومجتمعاتها، لكنها هي أول من عاني بسبب القراءة الأولى للتاريخ.
-----
كيف نقرأ التاريخ؟
عندما قلت لكما في المقال السابق أن "الأمة لم توجد قط"، ظن بعض منكما أني أمزح. لست جادة، أو لعل بعضكما همس في نفسه، "هاهي تغالط التاريخ من جديد". وفي الواقع أنا جادة تماماً فيما أقول. فالأمة لم توجد إلا في ذهن من قرأ التاريخ وفقاً لهواه، ورفض أن يراها على تعدديتها و تنوعها. تعددية تجعل من الحديث عن أمة عبثاً.
أعود وأطرح السؤال من جديد "كيف نقرأ التاريخ؟"
قراءة مخاصمي محدثي، هي في الواقع القراءة الرسمية لكثير من الدول العربية، تلك التي نقرأها في كتب تاريخنا.
هل قرأتي تاريخاً للأقباط في التاريخ الذي يُدرس في صفوفنا المدرسية في مصر؟ أي والله لهم تاريخ، تاريخ عريق، وهو جزء لا يتجزأ من تاريخ مصر نفسها، وعمره خمسمائة عام! هل تعرفين شيئاً عنه؟
وهل قرأتَ تاريخاً أو رؤية للدين تعترف بوجود الشيعة في المملكة العربية السعودية؟ كيف يسمونهم في الكتب المدرسية السعودية؟ رافضة! ومصيرهم النار!
وغالبا عندما نتحدث عن المملكة نراها بوجة متجهم سلفي. لكن لو أزلت ذلك القناع سترى تعددية ملونة، بين طوائف سنية شافعية وغيرها صوفية، إضافة إلى الحنبلية الوهابية، وأخرى شيعية جعفرية وإسماعيلية وزيدية. تعددية، تعكس تعدد المناطق التي تتشكل منها المنطقة. لكن القراءة الرسمية للتاريخ في المملكة لاتعترف بهذه التعددية. كأن سكان المملكة لم يكونوا!
وهل قرأتما كتب التاريخ في اليمن، شمالاً أو جنوباً ثم يمناً واحداً؟ كلها كانت ولا زالت تصر على أن ألوان المجتمع المذهبية غير موجودة، شافعية وزيدية وصوفية وإسماعيلية، وأنقسامها القبلي ليس سوى تفصيل. وإذا لم تعترف بوجود هؤلاء كيف ستبني دولة تقوم على مفهوم المواطنة؟ فأساس مفهوم المواطنة، أنك تدرك أن هناك تنوع وإختلاف، تحترمه، وتصر في الوقت ذاته أن الوطن يجمع الكل في بوتقة واحدة. كن ما تكون، في النهاية أنت مواطن.
وماذا عن كتب التاريخ في سوريا؟ هل هناك أي ذكر لوجود الأقلية الكردية؟ أو تاريخ الكنيسة الشرقية بتعدد مذاهبها، ثم ماذا عن تاريخ الطائفة العلوية والدرزية؟ هل يشار إليها في سوريا؟ مجرد الإشارة إليها من فم شخص حسن النية ستودي به إلى السجن.
ولا تنسيا الأمازيغ (البربر كما هي التسمية الشائعة) في بلدن شمال إفريقيا، السكان الأصليين في تلك البلدان، هل تاريخُهم أيضاً يدرس ضمن التاريخ الرسمي لتلك الدول؟
و الأقلية اليهودية؟ تلك التي كانت جزءا من نسيج مجتمعاتنا، ثم طردنا أغلبها بعد تأسيس إسرائيل؟ لو قيل لكما أنهم خرجوا بمحض إرادتهم لأنهم طابور خامس، كما قيل لي من سابق، انصحكما بقراءة كتب تاريخ المنطقة بلغات أخرى غير العربية، وحبذا لو عدتم إلى أرشيف الصحف العربية التي كانت تصدر في تلك المرحلة التاريخية. ستجدون أن أغلبية من الأقلية اليهودية طُردت من أوطانها، وأجُبرت على ترك الغالي والرخيص، وأن من أجبرهم على ذلك هي الدول العربية نفسها وأنظمتها الحاكمة القائمة آنذاك.
بعض هذه الأقلية اليهودية لازال موجودأً في بلداننا. في سوريا، في لبنان، في مصر، في المغرب، في تونس، وبالطبع في اليمن. تصر أنها منا، وأن أوطاننا أوطانها، رغم رفض الأوطان و المجتمعات لها. أي وجود حزين هذا يارب؟ هل نعترف بوجودها؟
لا حظا أني في كل حديثي هذا لا اجد اية مشكلة من وجود هذه التعددية في مجتمعاتنا. ليست مصدراً للفرقة والبلبلة. بل أعتبرها ضرورية.
لأن التعدد والتنوع كان دوماً سمة إنسانية.
كل منا له رأي، أو دين، او مذهب، عرق، او لغة، أو جنس، أو لون.
وهذا التنوع ضروري، بحكم أننا بشر، ولأن الإنسان ولد حراً. هو بالطبع لم يختار العرق أو الجنس أو اللون الذي ولد به. وغالباً ما سيتحدث بلغة محيطه. لكن هذه الخصائص الطبيعية لا تعد إنتقاصاً في شخصه.
هو وهي هكذا.
ولدا هكذا.
وهكذا أقبلهما.
أقبلهما بلا تحفظ.
لا أرى فيهما سوى الإنسان.
بتنوعهما.
وأحترمهما.
أيضاً بلا تحفظ.
وبلا شروط.
لإنهما إنسان. مثلي. مثلكما.
وهما، مثلكما، ولدا أحرارا.
وحريتهما تستلزم إختيارهما للدين الذي يرغباه، وللمذهب الذي يشاءاه، أو للرأي والموقف الذي يفضلاه. في الواقع حريتهما تستلزم حقهما في عدم إختيار أي دين إذا أرادا.
لا أرى مشكلة في هذا التعدد، وأُدين في الوقت ذاته تلك القراءة الرسمية للتاريخ في الكثير من دولنا العربية، لأنها ببساطة لا تريد أن تعترف أن مواطنيها متعددون، وأنهم متساوون أمام قوانينها رغم هذا التعدد.
وتصر على منظور يقول بأن الدولة لها هوية دينية، غالباً ما تكون مسلمة سنية (او غير سنية وتخشى من السنة)، وفي الأغلب تحولت إلى حارس شخصي لمصالح فئة دينية، مذهبية، او قبلية، ولأنها كذلك فإنها ببساطة تفتقد إلى الشرعية، خاصة في نظر مواطنيها "الآخرين" ممن يريدونها أن تكون ممثلة لهم هم أيضا.
يريدونها دولة محايدة.
دولة مواطنين، متساويين أمام القانون بغض النظر عن دينهم مذهبهم قبيلتهم جنسهم عرقهم أو لونهم. أهو كثير ما يطالبون به هنا؟
لاحظا أن هذه القراءة الرسمية للتاريخ لا تقول بالضرورة أن هناك أمة، إسلامية أو عربية. هي فقط لا تعترف بتعدد مجتمعاتها. لكن معظم الدول العربية مدركة تماماً لمعطيات الواقع المجتمعي والسياسي في المنطقة، وأنها دول، ليست جزءاً من أمة، عربية أو إسلامية، وتدري أنها في سياساتها ستتبع حتماً ما تمليه عليه مصالحها الإستراتيجية، كدول ذات سيادة ولها حدود. معظم الدول العربية تدرك ذلك وتمارسه عملياً.

في المقابل، هناك قراءة ثانية للتاريخ.
قراءة الإسلام السياسي.
هي ايضاً ترفض التعددية لكن من منطلق مختلف.
وهي أيضا تقرأ التاريخ كأن التاريخ لم يحدث فعلاً.
قراءة محورها الأمة... أمة تكره!
ولأنها تكره، تدعوكما إلى القتل.
أسرد قراءتها عليكما في المقال القادم.

الثلاثاء، 19 يناير 2010

أمة؟

في البدء كانت الكلمة!
والكلمة كانت إنسان!
والإنسان لا يكره!
.....
دعوني أقص عليكما حكاية قديمة!
حكاية حكيناها ألف مرة، كل قرن، كل عقد، وكل سنة.
نخط سطوراً وكلمات جديدة، ومضمونها ظل هو هو. لا يتغير. كأن قدرنا أن نحيا حياة لا تتغير فصولها.
المضمون كان في كلمة واحدة: "أمة".
هل تذكران؟
كانت "أمة إسلامية"، ثم تحولت إلى "أمة عربية"، ثم عادت لتصبح "إسلامية" من جديد.
لكن هل وجُدت هذه الأمة فعلاً؟

لو طرحت عليكما هذا السؤال، عزيزي الشاب، عزيزتي الشابة، لما ترددتما في الرد: "بالطبع توجد هذه الأمة"!
ستقولان:"هناك امة، وهي إسلامية. هذه حقيقة ساطعة كالشمس".
وغيركما في الأمس القريب كان سيقولان:" بالطبع توجد أمة، وهي عربية، تمتد من بغداد إلى الرباط، هذه حقيقة ساطعة كالشمس".
لكني تمنيت عليكما أن تتحليا بملكتي الشك والصبر معاً.

أن تشكا كثيراً في "الحقائق الساطعة كالشمس"، التي لا تسطع إلا لتغيب بالكذب.
شكا في كل ما يقال لكما، في كتب التاريخ، وفي خطب المساجد، وفي أحاديث شيوخنا، خاصة ذاك الذي يُحني لحيته بالحناء. يعرف نفسه فلا تبتسما.
فليس كل مالقنوه لكما صحيحاً. في الغالب ما قيل لكما لا يمت إلى حقائق التاريخ بصلة.

وأن تصبرا علي، وأنا أتحدث إليكما. لأني لا أتحدث بالرموز. فقط أهيء للنقاش معكما. فحديثي سيكون معكما طويلا في هذه السلسلة. وكما قلت لكما في المقال السابق، أني سأستهل سلسلة "من إجل إسلام إنساني" بالحديث عن الإسلام السياسي. ذاك الذي يدغدغ حبكما لله بحديثه، ثم يأخذكما معه في طريق يدعوكما به إلى القتل والإنتحار. فشكا كثيراً في نواياه، وأطرحا السؤال دوماً "كيف نُقتل حباً في الله؟"، وبأسم مَنْ نقتل؟" ولو طرحتما السؤال بهذه الصيغة، ستكتشفان أنه والكراهية وجهاً واحداً.
هذا الفكر، فكر الإسلام السياسي، يتخذ من كلمة "أمة" محوراً لرؤيته للوجود:
"أمة إسلامية في حالة حرب.
كانت دوماً في حالة حرب.
أمة إسلامية تقف مقاومة ضد الكفار."
وهؤلاء الكفار يشملون بشراً، مثلكما، شاب وشابة مثلكما، يدينان بديانات مختلفة، أو مذاهب إسلامية مختلفة، أو أختارا طريقاً مختلفاً لا يؤمن. هذا حقهما. هما بشر مثلكما، لكنهما يختلفان عنكما، تماما كما تختلفان عنهما. لكن الرحم هو هو: الإنسان فيهما وفيكما.
مسكينة هذه الأمة.
"تدخل في حرب، لتخرج من حرب، لتواجه حرباً من جديد.
وكلها حروب مصيرية.
علينا أن ندخلها أو نموت.
ومن يرفض الدخول فيها نقتله.
من يُشكك فيها يصبح منافقاً."

هكذا يفكرون، وهكذا يقولون.
وسيضربون بي مثلاً. فأنتبها.
سيقولان لكما: "هذه منافقة، باعت نفسها، تكره دينها وأمتها".
هذه إبتسامة، اهديها لكما، كي لا تصدقا.
فأنا أحب الإنسان. هو وطني. وأؤمن بالعقل، هو طريقي إلى الإيمان، و مُصّرة أن الأمة لم توجد قط!
وأؤمن أن الحروب لا تؤدي إلا إلى الخراب. ألم نتعب من الحروب بعد؟
وأن القتل، ينحر الإنسان فينا، وأنه لا توجد قضية في العالم بأسرة اقتل من اجلها. لن أقتل إنساناً من أجل فكرة. فإتركا القتل للمجرمين.
ثم هذه زهرة، أقدمها لكما، كي لا تطعنا في نيتي. فأنا اقف معكما في صف واحد. وأبحث معكما عن طريق لمستقبل تعيشان فيه وأنا وغيري معكما، بكرامة وإحترام رفاهية.
مستقبل يكون لكما.
أنتَ وأنتِ.
مستقبلٌ في وطن لكما.
وطن. ليس أمة.
بل وطن. له حدود. حدود جغرافية. وفي داخله مواطن ومواطنة. يقفان متساويان أمام القانون، بلا تمييز، بسبب الدين، النوع، العرق، أو الهوية.
إنسان يقف أمام قانون يحترم إنسانيته.
ولأني اقص عليكما حكاية، سأخط أول صفحاتها المرة القادمة بحكاية الأمة، تلك التي لم توجد قط!
---
في البدء كانت الكلمة!
والكلمة كانت إنسان!
والإنسان لا يقتل!

إلهام مانع

الخميس، 7 يناير 2010

علينا أن نختار!

"هذا يعني أنه لم يكن المسؤول عما حدث. اليس كذلك؟"
سألتني إبنتي، إبنة العاشرة، واحسست في سؤالها إبتهالاً. كأنها تريد أن تعفيه من تداعيات ما فعله.
وأنا رددت عليها: "بل يتحمل أيضا المسؤولية. لأنه في النهاية كان قادراً على الإختيار. كان بإمكانه أن يقول لا".
كان بإمكانه أن يقول "لا".
لكنه لم يقلها.
فكان عليه ان يتحمل تداعيات ما حاول فعله.

كنا نتحدث عن الشاب النيجيري الذي حاول تفجير نفسه وركاب طائرة متوجهة إلى ديترويت في أعياد الميلاد.
كنا نتحدث عن فِعله.

حدثتها عن حياته، كإبن لعائلة مرموقة في نيجيريا، وعن مستقبله الذي كان يمكن ان يكون مشرقاً. وعن أسرته، عن أبيه، و حرقة قلب والديه. آه، من لديه إبن أو إبنة سيدرك لوعة قلبهما. كيف ضاع إبنهما منهما؟ وكانا قد وفرا له افضل السبل كي يشق حياته.
ثم حكيت لها عن زيارته إلى اليمن، ثم إلى بريطانيا، وكيف اجتمع عليه إسلاميون، غسلوا دماغه غسلاً، فنسي أهله، ونسي مستقبله، بل كره أهله، وكره حياته. وعندما قالوا له إن الإيمان يعني أن ينتحر ويقتل غيره في الوقت ذاته! صدقهم. أستقل طائرة يريد ان يفجرها.
لهذا قلت لها إنه "أيضا" يتحمل المسؤولية.
فأنا لم انس انه زار اليمن. وأن تقارير عديدة اخرها ما ذكره توماس فريدمان في مقاله المنشور في الهيرالد تريبون في السابع من يناير، اظهرت أنه ارسل إلى اسرته من اليمن يحدثهم عن "إكتشافه" "للإسلام الحقيقي".
لم أنس أن زيارته تلك، و"إكتشافه" ذلك، جعله يتحول إلى "إسلام" يدعو إلى القتل والإرهاب. "دين" لا يجد ما يضير في قتل الإنسان لنفسه. في الإنتحار. ويشجع من يرغب في الإنتحار على قتل غيره. قتل الطفل والمرأة والرجل والشيخ. قتل الإنسان.
ويسموه جهاداً؟ بل إسمه إرهاب.
سموا الأشياء بأسمائها. لا تضللوا العقول، كي لا يسقط شاباً مثله من جديد في الفخ.
ولم أنس أن هناك من غسل دماغ ذلك الشاب. غسلها غسلاً، في اليمن، وفي بريطانيا حيث تنتشر أيضاً حركات إسلامية، تصر أنها "إكتشفت اسلاماً حقيقياً"، وتدعو مريديها إلى القتل، تدعوهم إلى "الجهاد" ( لاتنسوا إسمه من جديد) تدعوهم إلى الإرهاب.
ورغم أني لم أنس كل هذا، لم أنس ايضاً ان الشاب أختار.
إختار.
فميزة الإنسان مقدرته على الإختيار.
كان بإمكانه أن يقول "لا".
كان بإمكانه أن يفكر. أن يتدبر. ان يتساءل: "كيف يكون قتل البريء طريقاً إلى الله؟ أي رب يدعو إلى القتل؟ ولماذا يرسلوني أنا، أنا من دون غيري، للإنتحار والقتل؟"
كما كان بإمكانه أن يتراجع عن الفكرة.
كان بإمكانه أن ينظر إلى وجوه المسافرين معه على متن الطائرة، الأم تحنو على طفلها، الصغير يبتسم وهو يلعب، الزوج والزوجة يتحدثان، المسن يتحرك في مقعده قلقاً، والشابة سعيدة بلقاء إسرتها في الأعياد، أن ينظر إلى وجه الإنسان من حوله، ويتساءل، ماذا فعلوا كي يستحقوا القتل؟ بأي ذنب أقتلهم؟ ولو طرح السؤال على نفسه، ما كان سيجد جواباً.
لكنه لم يتراجع. فكان عليه أن يتحمل مسؤولية ما فعله.
الإثنان يتحملان المسؤولية.
الجماعة التي غسلت دماغ الشاب، والشاب الذي أختار.
ففي النهاية ما يصنع الإنسان هو قراره.
لكن الصورة لم تكتمل بعد.
نحن أيضاً نتحمل المسؤولية فيما يحدث اليوم، في هؤلاء الشباب الذي يفجرون أنفسهم في العراق، في أفغانستان، في باكستان، في داغستان، وفي العالم بأسرة، يرهبون العالم لأننا صامتون.
نحن.
نحن: قنواتنا التلفزيونية التي تُمجد ثقافة "الجهاد"، فيصدقها الشباب برئياً، ليقدم على القتل والإرهاب. وإعلامنا يحول المحرضين من نوعية يوسف القرضاوي (لم أسمعه يوماً يحرض على الجهاد ضد قطر؟) وعبدالمجيد الزنداني، هذا عدا شيوخ السلفية الوهابيين، يحول هؤلاء إلى أبطال، ينظر إليهم شبابنا اليافع مصدقاً مبهوراً، لا يدري أين سيقوده إنبهاره.
نحن: حكوماتنا التي ما فتئت تغازل الإسلام السياسي، تجيره لصالحها، تظن أنها ذكية، حتى أنقلب ضدها، فأصبحت اليوم تخافه، ولإنها لازالت تخافه لم نسمع الى يومنا هذا مسؤولاً يخرج علينا يدين "الجهاد" ويسميه بإسمه ( لا تنسوه من جديد)، إسمه "إرهاب".
نحن: ديننا الإسلامي نتعامل معه كأنه حجر صلد ننحني أمامه كأنه صنم. نرفض أن نقر أن ديننا في حاجة إلى إصلاح جذري، وإن هذا الإصلاح لن يجد طالما لم نقر بالطبيعة البشرية للقرآن والسنة، كي نصل إلى مرحلة تمكننا من القول: "نعم، هناك نص في القرآن، لكن هذا النص لا يعنينا اليوم". في الواقع، اليوم، يتوجب علينا أن نفصل بين الدين والدولة كي نتمكن من أن نحيا.
نحن: من يرفض ما يحدث ويظل رغم ذلك صامتاً. يظن أن في الصمت الأمان، ليصحو يوماً على إبنه منتحراً قاتلاً.
نحن إذن مسؤولون أيضاً.
كذلك الشاب النيجيري ومن غسل دماغه.
عن نفسي، اعتدت أن اتحمل مسؤوليتي، ولذا قررت من جديد أن لا أصمت.
قررت أن أبدأ سلسلة جديدة تحت عنوان "من أجل إسلام إنساني". أتحدث فيها عن الهوية، عن حرية الإختيار، عن طبيعة القرآن، وعن المرأة في ديننا. وقبل كل هذا سأتحدث عن مضامين دعوة الإسلام السياسي، مضامينها الفاشية.
وسأفعل ذلك كل إسبوعين، في موقع شفاف الذي أستضافني دوما، ولذا اظل ممتنه له، وعلى صفحات جريدة النداء اليمنية المستقلة، التي اشكرها على إستضافتها الدائمة، وعلى مدونتي أيضا.
قد أتأخر بضعة أيام، فلا تنزعجا، أنتَ وأنتِ، مني.
فأنا أعمل كما تعرفا، أعمل كي اتمكن من كتابة هذه الكلمات وأنا حرة.
لكني لن أتأخر أكثر من ذلك.
فقراري ببساطة لا يزيد عما يجب أن نفعله نحن جميعاً، أن نبدأ بقول كلمة "لا"، "لا" لفكر يقتل آدميتنا، يبرر القتل والإرهاب، ويدعو شبابنا، كالنيجري الشاب، إلى الإنتحار والقتل، ويدفعه دفعاً إلى الجحيم بدعوى أن "في القتل الخلاص".
هذا الفكر أرفضه، جملة وتفصيلاً.
وسأعبر عن رفضي له بالكلمة.
ففي البدء، كما تعرفون، كانت الكلمةَ!