الثلاثاء، 9 نوفمبر 2010

من يَحبُ اليمن؟

اليمن "تِشتي" من يحبها! كم مرة قلتها لي ياأبي.
وأنا كنت اسمعك، أبحث معك ايضاً عمن يحبها.
واليوم أقف بجانبك، وغيرنا كثيرون، ننظر إلى اليمن، انفاسنا محبوسة في صدورنا، نخشى لو تنهدنا أن تسمعنا.
ألم نخيب املك فينا يايمن؟ أبناؤك وبناتك؟
نعم. يحق لك أن تبحثي عمن يحبك.
فنحن إلى يومنا هذا لم نعرف كيف نحبك.
-----
تعرفت مؤخراً على شاب سويسري من أصل عربي.
أسلم.
ثم سافر إلى اليمن.
عاش وعمل فيها.
كان مؤمناً عندما سافر إلى اليمن. قال لي.
وكان على مايبدو سعيداً لأنه سيتمكن من ممارسة شعائر دينه في بلد مسلم.
بدأ يتردد على المسجد. كل جمعة. كان مواظباً على الصلاة. كل جمعة.
وكان يستمع بإنتباه إلى خطبة الجمعة. كل أسبوع.
ولأنه كان يستمع، بدأ يندهش، يستغرب، ثم ينزعج. واخيراً، قال لي: "شعرت بالقرف". نعم. القرف.
القرف مما كان يتردد على مسامعه في مساجدنا. في اليمن.
ولأن ما سمعه في تلك المساجد كان "كافياً" على مايبدو، فقد إنسل من الدين الإسلامي. تركه وراءه. ولم يندم. فكدت أهنئه.
هل الومه؟ أم الوم ذلك الخطاب الديني في مساجدنا؟
هذا الشاب أعمل عقله وقلبه. ولأن الحب والخير كانا في قلبه لم يحتمل الكراهية.
كان يستمع ويشك. يستمع ويفكر. يستمع ويتساءل: أين الله في كل ما يقال في هذا المسجد؟ أين الحب والخير والجمال؟ أين الروحانية؟ أين كل هذا في خطبة يلعن الأمام فيها الدنيا ومافيها، وتحديداً غير المسلمين، يدعو على الغرب بالدمار، ثم يصف اليهود والمسيحيين بالقردة والخنازير؟ أين الروحانية في مثل هذه الصلاة؟
ثم أين الله في كل هذا؟
لا أر هنا سوى الكراهية.
نكره واقعنا فنتحول بكراهيتنا إلى الغير، ذلك الآخر، نحمله مسؤولية واقعنا، بدلاً من أن نتحمل مسؤولية أنفسنا. ونقول "لنصلي"، والأحرى أن نقول "لنكره".
----
لم أحكِ لكما هذه الحكاية؟
احكيها لأننا لا زلنا نصر على دفن رؤوسنا في الرمال.
فمنذ الكشف عن الخطة لإرهابية الأخيرة، ووسائل إعلامنا الرسمي وشبه الرسمي تبدو "منزعجة" "كثيرا".
تصر على أن ما يقال في وسائل الإعلام الدولي "مجرد تهويل". وغيرها يلجأ إلى المؤامرة كحل سهل جميل:"يريدون أن يحتلونا".
واللهِ؟ وددت لو أعمل صاحب نظرية الإحتلال هذه خلايا عقله الرمادية ورد على السؤال "لماذا يريدون ان يحتلونا؟" ما الذي ستكسبه الولايات المتحدة من إحتلال بلد فقير معدم؟
كأن الولايات المتحدة ينقصها هم جديد. ألا تكفيها رمال أفغانستان وباكستان المتحركة.

ندفن رؤوسنا في الرمال. اكرر.
ونصر على أن العيب ليس فينا بل في غيرنا.
وهذه الطريقة، رغم إعتيادنا عليها في مجتمعاتنا العربية بإختلافها، إلا أنها في حالتنا نحن في اليمن ستكلفنا غالياً.
فالموقف لم يعد يحتمل التسويف والمماطلة.
صحيح أنه يحق لنا أن نشعر بالخوف والإحباط ثم اليأس.
محاصرون نحن في اليمن بين خماسية الفقر، الجهل، الفساد، التمزق، والتطرف.
كماشة أطبقت بأطرافها الخمسة على أعناقنا ونهشتها. فتناثرت أنفاسنا هباءاً.
وصحيح انه يحق لنا ان نشعر بالذعر من وصم بلدٍ عريق له تاريخه وحضارته كاليمن كوكر للإرهاب.
أصبحنا نخجل من أن نقول "يمني".
وتحول جواز سفرنا اليمني إلى "وثيقة إتهام"، لا تعني بالنسبة لحاملها إلا المزيد من إجراءات التفتيش والمساءلة.
كل هذا صحيح.
لكن الصحيح ايضاً ان هناك بيئة فكرية دينية منتشرة في اليمن تبرر للإرهاب ثم تسعى إلى نشره وتصديره. وأن تجاهل هذه البيئة، أكرر، لن يزيد الوضع إلا سوءاً.
الصحيح أيضاً أن الحكومة اليمنية ما فتئت تداهن شيوخ السلفية ممن يروجون للفكر الجهادي (الإرهابي) المتطرف، وعلى رأسهم الشيخ عبدالمجيد الزنداني، تتملقهم، وتسعى إلى رضاهم.
الشيخ عبدالمجيد الزنداني هو الأب الروحي لإسامة بن لادن.
وهوإلى يومنا هذا يرفض أن يدين إسامة بن لادن. لم لا تدينه ياشيخنا مادمت تقول إنك "وسطي"؟
وجامعة الإيمان، التي تأسست بتمويل سعودي قطري، و يرأسها الشيخ، دّرس فيها أنور العولقي.
تماماً كما أن الشاب النيجيري عمر الفاروق كان يسكن في السكن الطلابي التابع لجامعة الإيمان، في عمارة الخولاني في صنعاء.
وقبلهما قتل أحد طلابها ثلاثة أجانب.
كل هذا، ورغم كل التحذيرات التي تصل إلى الحكومة اليمنية من الحكومات الشقيقة وغير الشقيقة عن هذه الجامعة والفكر المتطرف الذي "تدرسه"، فإن أبواب الجامعة تظل مفتوحة. مفتوحة لأكثر من سبعة ألاف شاب وشابة، منهم المئات ممن يفدون إليها من أنحاء العالم. "تدرسهم" أو "تدربهم"؟
والمجتمع الدولي ليس غبياً. يتابع ويراقب. وينتظر المبادرة.
لعل الوقت قد حان لأن تقفل الجامعة أبوابها.
لعل الوقت قد حان أن نعيد النظر في علاقة التحالف بين السلطة و"التيار السلفي".
لعل الوقت قد حان لأن تأخذ السلطة موقفاً حازماً من "ثقافة الكراهية" التي تنشرها رموز التيار السلفي.
ثم تكف عن الرقص على رؤوس الثعابين، الأجدى أن تمسك برؤوسها ثم تُخرج السم من بين أنيابها.
فاليمن لم تعد تحتمل.
لم تعد تحتمل.
حبذا لو تعلمنا كيف نبدأ في حبها.
إلهام مانع

الأربعاء، 20 أكتوبر 2010

الهوية إنسان 12 (ب)

كنا نسمية إش - ISH
هكذا كنا نسميه.
وكان يكفي ان ننطق بحروفه حتى يتبدى لنا معناه.
، الحروف الأولى لمنزل الطلاب الدولي. ISHإش،
منزل قضيت فيه سنتين من عمري عندما إرتحلت إلى العاصمة الأمريكية واشنطن لدراسة الماجستير بفضل منحة فولبرايت أمريكية.
منذ وطأت قدمي عتبة باب منزل الطلاب الدولي أحسست أني وصلت اخيراً إلى بيتي. فتنفست. آه ما أجمل الهواء عندما يكون نقياً.
أليس ذلك غريباً؟
طوال عمري، وفي كل مكان عشت فيه، كنت أشعر أني غريبة.
طوال عمري. حتى في وطني الأول اليمن، كنت أشعر أني غريبة وغيري كان يصفني بالغريبة.
ثم أصل إلى بيتٍ كله غرباء فأشعر أني عثرت على ضالتي!

أبي كما تعرفان كان دبلوماسياً. ولذلك كنا ننتقل من بلدٍ إلى أخر، ونعود إلى اليمن لفترة سنتين.
في كل بلد ذهبت إليه كنت شيئاً أخر لغيري. نبتة غريبة تُزرع في أرض بعيدة، تطل برأسها من بين أوراقها وزهورها، تتأمل ما حولها، تبتسم، قبل أن تخلع جذورها، لترحل إلى أرض جديدة، ثم تندس في تربته ... إلى حين.
وكان لي هوية وإسم جديد في كل مكان.
في اليمن كانوا يعتبروني نصف نصف. يمنية... إلى حدٍ.
وعندما عملت في جامعة صنعاء لثلاث سنوات بلغني أنهم كانوا يسموني المصرية الطويلة. فكنت ابتسم.
غيري يخجل من إختلاط دمه. أما أنا فأفخر به.
في مصر، حيث وُلدت، وتجري في دمي دماءاً مصرية، كنت لغيري يمنية إلى حدٍ. لهجتي مصرية إلى حدٍ، ولذلك كان السؤال دائما يتبدى في أعين محدثي عندما اقول "بل يمنية".
في إلمانيا حيث عشت طفولتي المبكرة، ظننت لفترة أني ألمانية. ولم اكتشف أني غير ذلك إلا عندما إرتحلت من جديد وكففت عن النطق بالإلمانية. فكان إنكشافاً عن مستقبلِ هوياتٍ متداخلة.
في إيران حيث عشت ثلاث سنوات كنت "العربية" في مقابل "الفارسية". ونطقت رغم ذلك بالفارسية كي العب مع أترابي في حينا. أما أبي، إستاذي، فكان لا يكل حينها عن الغناء لي وأخي"أنا يمني، فأسأل التاريخ عني أنا يمني". وأظن ان الدموع تسيل اليوم على وجنتيه لو سمعني اغنيها معه من جديد.
آه ياأبي. هل ستغنيها لي من جديد اليوم ؟ ثم هل ستصدق ما تقوله فعلاً؟
في المغرب حيث عشت لأول مرة في حياتي في بلد أربع سنوات متصلة كنت "مشرقية" لا "مغاربية". وفي كل مرة كنت اتحدث فيها مع شخص مغربي يُغير محدثي او محدثتي من لهجته المغربية الدارجة إلى العربية الفصحى.ولم يُجدِ كثيراً تأكيدي أني افهم الدارجة، لكنها كانت دوماً لفتة كريمة من قِبلهما.
هناك درست في مدرسة عراقية، طلابها من ابناء وبنات الجالية العربية الدبلوماسية في المغرب. ورغم أني تعلمت دوما (ماعدا في اليمن) في مدارس مختلطة، إلا أني هناك تحديداً تعلمت ان الفتاة يمكن ان تكون وحدها في مجتمعٍ كله ذكور، ولن يضيرها. بل تقف شامخة وعيناها تلمعان. كنت الفتاة الوحيدة في الفصل بين 11 طالباً في السنة الأولى من الأعدادية .
وهناك تعلمت ايضاً أن الصداقة ممكنة بين فتاة وشاب. ولازلت اذكر صديقاي السعودي عبدالله بيومي والعراقي سعد معاذ بالمحبة والخير. تماماً كما تعلمت انه ليس هناك شيء إسطوري او خارق في الرجال. هم من نفس الطينة. وكنت اعرف ذلك من منزلنا، لكنه تأكد واقعاً ملموساً بالتجربة.
في الكويت، حيث درست البكالوريوس، وعشت للمرة الثانية اربع سنوات متصلة، كنت نصف نصف، نصف يمنية نصف مصرية. ثم اصبحت في زيارتي الميدانية التي قمت بها عام 2008 سويسرية. عربية لكن سويسرية. وحبذا لو تجاهلنا الموقف اليمني خلال إحتلال العراق للكويت.
وفي الولايات المتحدة كنت "غريبة ساحرة"، من بلد يغوص في التاريخ، يبحث محدثي عن موقعه على خارطة العالم ولايستطيع. وكان يمكنني ان اكذب واقول إنها مدينة امريكية تقع جنوب كاليفورنيا، وكان المسكين سيصدق. لكني اكره الكذب.
واليوم سيصعب إبتلاع الكذبة خاصة وأننا اصبحنا مصدّرين لبضاعة رعب، إسمها الإرهاب، ويسميها شيوخنا الجهاد.
في سويسرا، كنت يمنية، ثم تحولت بفعل قادر بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية إلى "المسلمة"، واليوم بعد خمسة عشر عاماً متصلة من الحياة فيها يعتبرني البعض هنا "سويسرية مسلمة".
وأنا سويسرية أيضاً.. إلى حد.
------
غريبة كنت. أبحث عن مكان أسميه وطن، وكيان أسميه هوية.
كطائر تائه يبحث عبثاً عن سربه.
إلى أن دخلت باحة ذلك السكن الطلابي. إش. إنترناشونال ستيودنت هاوس. هناك احسست أني اتنفس من جديد. ولم اعرف مكاناً سواه أحسست فيه أني جزء منه كذلك البيت. كنت صاحبة البيت منذ دخلته. ولم أكن غريبة البتة.
اليس ذلك عجيباً؟
بيت يضم 82 طالبة وطالباً ينتمون إلى 33 دولة من قارات العالم الستة، ويمثلون كل أديان العالم.
بيت هو الكرة الأرضية بأسرها بالبشر الذي فيه.
وأحببته كما لم أحب وطناً من قبل. وكان وطني. إلى يومنا هذا.
في إش كنا جميعاً غرباء. كل ينتمي إلى دولة ودين ولون وعرق. ولاننا كلنا كنا أجانب فإن حصيلة جمعنا كانت ياللعجب هوية الإنسان لاغير.
كنا إنسان أولاً. الهوية كانت إنسان.
هكذا كنا نتعامل مع بعضنا البعض. وكنا في إختلافنا وتنوعنا متساوون.
ولم يهم كثيراً من أي بلد جئنا، أي دين، او لون جلدنا. كان المهم في علاقتنا "كيف نتعامل مع غيرنا". "عامل غيرك كما تُحب ان ُتعامل"، لم أعرف افضل من هذه القاعدة في التعامل مع من حولي.
الإختلافات الثقافية والسياسية التي فرقتنا في العالم الخارجي حملناها معنا بكل تأكيد إلى هذا السكن الطلابي، ومعها الخوف والتحفظ. لكننا تعلمنا مع الوقت كيف نتغلب على اللحظة الأولى من التردد ثم ننظر إلى ما بعد خوفنا. وكثيراً ما كنا نندهش من الحب والخير الذي في الإنسان.
في إش تعرفت على أول صديقة يهودية لي. سيلفيا من بيرو. شعلة من الحياة. أحتفظ في درجي بقلادتها... قلادة بسيطة محفور عليها كلمات قصيرة: "ليس هناك أفضل من صديق عزيز".
صديقتي وأحبها.
وفي إش إلتقيت بصديقين وفيين، عاشا كما أنا بدويين عالميين، رامين الأمريكي من أصل إيراني، وماركوس الألماني، وكلاهما يعرفان ما تعنيه الهويات المتعددة.
وفي إش تعرفت على زوجي توماس، وأبو ابنتي سلمى. وأذكر كيف نظرت إلى يديه أول مرة إلتقينا فيها. يالله كم أحببت يديك.
ثم رفعت عيني إلى وجهه، تأملته قليلاً، وأدركت لحظتها أنه سيكون نصيبي. هناك من يؤمن بالحب من أول لحظة. أما أنا فأؤمن بالثقة من أول نظرة. وثقت به، وكان كما توقعت.
في إش إكتشفت أني كنت غريبة لأني في قرارة نفسي لم أتمكن من الإنتماء إلى مكان واحد. كنت شجرة تخلع جذورها ولاتتعب من تربها الجديدة.
كل الدول التي عشت فيها اوطاني... إلى حين. تأتي لحظة، فأحلق بجناحي وارتحل إلى مكان جديد. فكنت دوماً شيء ما إلا قليلاً.و لذا لم اشعر بالإكتمال إلا عندما فهمت من أنا.
بدوية تؤمن أن العالم بأسره وطناً لها. وتتخذ من الإنسان هوية.
اليس هذا كافيا؟
الوطن لذلك كان دوماً في داخلي.
غيري يمكنه ان يسميني كما يشاء، لكني أنا من يحدد من أكون. وأنا هو أنا. وهذا يكفي. الوطن في داخلي. وهذا الوطن اسميه انسانيتي. ولذا لن تعني الحدود الجغرافية شيئا بالنسبة لي، ففي كل مكان ذهبت إليه تعرفت على الإنسان فيه، ولم يهم كثيرا من يكون، لونه، عرقه، دينه. في النهاية كان دوماً إنسان. وكانت إنسانيته إكتشافي ثم كنزي.
إش هو العالم كما يجب أن يكون.
العالم كما يجب ان يكون.
وللحديث بقية.
إلهام مانع

الأحد، 19 سبتمبر 2010

الهوية إنسان 12 (أ)

" إذا كان لمفهوم وجود الله أية صحة او غاية، فإنه يهدف تحديداً لجعلنا أكبر، أكثر حرية، وأكثر محبة. أما إذا كان الله غيرَ قادر على ذلك، فقد حان الوقت كي نتخلص منه". جايمس بالدوين
قد تكون عبارة بالدوين، الكاتب الأمريكي من أصل إفريقي، صادمة. وهي بالفعل صادمة.
لكن عبارته تحديداً هي الجوهر الذي يقوم عليه مفهوم الإسلام الإنساني.
مفهوم يقول ببساطة إن الإيمان يهدف إلى خلق علاقة بين الإنسان والخالق. لا أكثر ولا أقل.
علاقة روحانية.
وأن هذه العلاقة من الممكن ان تأخذ أشكالاً متعددة. فأي دين، أياً كان هذا الدين، ماهو إلا طريق. وسيلة يستخدمها من يريد أن يؤمن. ولذلك لا توجد تراتبية بين الأديان. ليس هناك دين أفضل من دين اخر. كلها طرق، تصل بنا إلى الهدف نفسه.
بكلمات أوضح، الإيمان يمكن أن يصل إليه الإنسان من خلال الأديان الإبراهيمية الثلاثة، اليهودية والمسيحية والإسلام، من خلال الأديان الهندوسية والبوذية، تماماً كما يمكن أن يصل إليه دون دين. الدين ماهو إلا غلاف أوقشرة خارجية. أما المضمون فهو العلاقة الروحانية التي تربط بين الفرد والرحمن. طريقة الإيمان لا تنعكس على طبيعة الإيمان، لا تنقص منها، أو تشوهها. كلها طرق متساوية، تماماً كالعلاقة التي تجمع من خلالها الإنسان بخالقه.
كوني اقول ذلك يعني بداهة أني افترض أنه لا يوجد دينٌ كامل.
وهذه أيضا عبارة صادمة. فأعذراني إذا كنت قد تسببت فعلاً في صدمكما. لاسيما وأنني سأكررها. كثيراً. ورجوتكما رغم الصدمة أن تتمعنا في هذه العبارة: ليس هناك دينٌ كامل. والإسلام أولها.
مؤيدو فكر الإسلام السياسي هم واتباع التفسير الكلاسيكي الإرثوذوكسي للإسلام بشقية السني والشيعي سيرفضون هذه الرؤية عندما تتصل بالإسلام تحديداً (وفي الواقع سيرفضها أيضاً أتباع الأديان الأخرى المتزمتون لكن حديثنا في هذا الموقع يركزعلى اصحابنا هؤلاء).
هم لن يشيروا إلى الأديان البوذية أو الهندوسية من الأساس بأعتبار انه من تحصيل الحاصل ان هذه الأديان "كفر" و"شرك" و"إلحاد"، ثم سيعرجون على اليهودية والمسيحية، اتباعها "اهل كتاب طبعاً"، لكنها تظل في رأيهم "ناقصة"، "ناقصة"، إنما جاء الإسلام ليكملها. وهو يعني حتماً إقتناعهم أن الإسلام جاء كاملاً جامعاً تاماً، لا تشوبه شائبة.
الإسلام الإنساني يرفض هذه القناعة. ويصر على ان أي دين، بما فيه الإسلام، لا يتصف بالكمال.
الدين ليس حجراً صلداً. لا يتغير، لا يتبدل، لا يتحول.
لو أردتما صورة ذهنية للدين، تخيلاً بذرة، نضعها في تربة، فتنمو، وتترعرع، ينبثق منها فروع وأغصان، وثمار أيضا. لكن كي تنمو، كي تزهر، لا بد من تشذيبها، من قطع بعض اطرافها، من العناية بها.
أعود واكرر لكما تلك العبارة المزعجة: ليس هناك دين كامل.
لماذا؟
كل دين خرج من ضمن نطاق زمني تاريخي محدد. وهو لذلك إبن زمنه. ولأن كل الأديان وجدت قبل أكثر من الف سنة، فإنه من الطبيعي أن يكون فيها الكثير الكثير الذي لا يتماشى مع مفاهيمنا الحديثة العصرية لحقوق الإنسان وكرامته.
هذه الرؤية الإنسانية للإسلام تقول إن الدين، أي دين، ما هو لحظة نشأته إلا نواة، وَضع جذورها من آمن بهذا الدين ونشر رسالته، ثم بني عليها الناس على مر الآجيال، جيلاً بعد جيل، فإذا بالنواة تتحول، تتغير، تتبدل، ثم تتشكل وفقاً لرؤية و مواقف وأفكار من يؤمنون بهذا الدين.
الأديان تتغير على مر الزمن. وهذا يفسر على سبيل المثال السبب الذي جعل الإسلام الإندونيسي (قبل أن يتأسلم أخيراً) شكلاً مغايراً عن الإسلام النجدي. ويفسر أيضا سبب تفرع الإسلام إلى مذهب سني واخر شيعي وثالث صوفي، ثم تحوله إلى شكل اخر مغاير إلى حد كبير في صوره العلوية، الدرزية.... وغيرها.
نحن من يصنع الأديان، اعزائي.
نحن.
الإنسان هو من يصنع الدين.
هو من يجبله بطبعه، بروحه، بعقلانيته أو إنعدامها، وبالحب او الكراهية الذي فيه.
هذه الرؤية للدين تتطلب حتما التعامل معه بشكل "نسبي"، فكما أن كل شيء يتغير، يتغير الدين. وطالما ان الهدف هو تنظيم علاقة الإنسان بالخالق (إذا أراد هذا الإنسان ان يؤمن) فإن كل ما عداه يخضع للتغيير.
من هذا المنطلق أتعامل على سبيل المثال مع الحدود التي جاء بها القرآن الكريم أو السنة النبوية.
قطع يد السارق، رجم الزانية (احدد الضحية بالمؤنث لإني لم أسمع في عصرنا هذا عن عقوبة إستهدفت رجلاً لأنه زنى. هو منطق الكراهية، لا يستهدف إلا الضعيف)، الجلد... وغير هذا من العقوبات البدنية، كلها تنتمي إلى العصر الذي وضُعت فيه، أي القرن السابع الميلادي.
وهي عقوبات لم يبتكرها النبي الكريم.
إنتبها، فهذا الأمر مهم.
هذه العقوبات لم يبتكرها الرسول الكريم. كانت موجودة قبل أن يولد. وعندما أراد ان ينظم الدولة التي أسسها إستخدم ادوات العقاب التي كانت متواجدة حينها.
كان ذاك زمانه.
اليوم زمان أخر.
في زماننا هذا، نسمي الأشياء باسمائها، نسمي هذه العقوبات عقوبات "بشعة"، لأنها "بشعة" بالفعل، لا تنتهك حقوق الإنسان فحسب، بل تنتهك آدميته وكرامته. شاب سرق. أنقطع يده وننتسبب له في عاهة تحوله إلى عالة على المجتمع، أم نعاقبه بمدة سجن مناسبة ونأهله كي يخرج عضوا فاعلاً في المجتمع؟ ثم تخيلا منظر يده وهي تقطع، اليس هذا منظر ينتمي بجدارة إلى القرون الوسطى؟
من يطالب بالعودة إلى تطبيق هذه العقوبات، أقول "العودة" لإن معظم الدول العربية والإسلامية بإستثناء تلك الدول الدينية الكهنوتية التي نعرفها ولن نسميها، لا تطبقها؛ أقول من يطالب بالعودة إليها لا يعيش فقط بعقله وروحه في القرن السابع الميلادي، بل نسي أيضاً آدميته.
---
كما أن الزمان تغير فيما يتعلق بأساليب العقاب، تغير أيضاً بالنسبة للمغزى من الإيمان بدينٍ ما.
فالهدف، وفقاً لرؤية الإسلام الإنساني، من الإيمان بدين ما، يرتبط حتماً بإحتياجات هذا الإنسان.
إحتياجات هذا الإنسان الروحانية، لا أقل ولا أكثر.
الهدف هو الإنسان نفسه.
ولذلك، لا ارى أن الإنسان يجب أن يُسخر نفسه واسرته ثم مجتمعه للدين. العكس هو الصحيح.
الدين وسيلة. طريقة. توصلنا إلى الخالق، إذا أردنا أن نصل إليه.
ولذلك لن يضير الله كثيراً لو صليت خمس مرات، أو ثلاثة، أو مرة في الأسبوع. في الواقع أنا لا أصلى إلا إذا احسست بحاجة إلى الصلاة والتأمل.
وإذا قرر إنسان إنه لا يريد أن يصلي، فهذا أمر لا يستحق الإدانة أو النقد أو التجريح. لن يجعله افضل أو اسوأ. شأنه.
وفي الواقع، سواء صلى او لم يصل، صام أو لم يصم، لن يزيد الأمر عن مسألة تخصه. شأنه.
الدين ليس فرضاً، وفروضه ليست قهراً.
وعندما نحوله إلى فرض ثم قهر ينتفي الإيمان.
لن يكون إيماناً حراً من شخصٍ إختار، بل قهراً كهنوتياً يتناقض حتماً مع مفهوم "الإيمان".
أن تؤمن يعني أن تكون حراً.
وهذه الحرية تعني أيضاً أن من حقك أن لا تؤمن.
الله ليس في حاجة إلى الإنسان.
ولا أظنه عز وجل سيبالي كثيراً او قليلاً لو انقرضت الأديان من على وجه الأرض.
وفي الواقع كما قلت مرة لصديق، إني وصلت إلى قناعة أننا إذا اردنا أن نبحث عن الله، فعلينا أن نبحث عنه فينا، في أنفسنا. نحن.
وأنه إذا كان موجوداً خارج ذواتنا فإنه قد تركنا وشأننا منذ بدء الأزل، واننا لذلك مطالبين بتحمل مسؤولية أنفسنا والعالم الذي نحيا فيه.
ووالله أني كثيراً ما شككت في وجوده، خاصة في أوقات الحروب. عندما رأيت الطفل يُقتل وهو لا يحميه.
اسأله: أين انت عندما نحتاج إليك؟
وأسمع رداً، هامساً: أنا فيك، إبحثي عني فيك، في الإنسان فيك، وفي الخير الذي في روحك. فكما يصنع الإنسان الحروب ويغرس الكراهية، هو أيضاً من يصنع السلام وينشر المحبة.
---
سيهزأ مني الكثيرون. ويحنق غيرهم، وبعضهم سيُكّفر.
وسيقولون مارقة، كفرت وخرجت عن الإسلام. ولهم ان يقولوا ما شاءوا، فلن يغير من إصراري أني في كل ما أقوله
اقوله من داخل دائرة الإسلام.
أصر على أن أقول إن الدين الذي اخترته لنفسي هو الإسلام.
لكني في الوقت ذاته ارفض مقولة "هذا هو الإسلام، إما أن تقبلوا به كما هو أو تخرجوا منه".
فأنا في الواقع، اخواتي، لا أقبل به كما هو، لكني لن أتركه، وفي الوقت ذاته سأسعى إلى تقديم رؤية مغايرة، تمكنني من الإيمان لكن بصورة تحترم آدميتي، عقلي، وكرامتي. بصورة تحترم مفاهيم حقوق الإنسان في صورتها الحديثة اليوم.
وبصورة تجعل من هوية الإنسان هي المعنى الأشمل لمفهوم الإيمان.
ولذلك، لو لاحظتما، في الفقرة السابقة قلت "اصر على أن اقول إن الدين الذي اخترته لنفسي هو الإسلام"، ولم أقل "إني مسلمة". لأني اصر، أذكركما، على أن الدين ليس هوية.
الدين ليس هوية. بل إختيار.
و الهوية هي الإنسان.
أُكمل هذه الفكرة معكما في المقال القادم.

الأربعاء، 11 أغسطس 2010

كيف أؤمن بالله؟

أردت الإستهلال فجاءني الخبر، فِقدٌُ جديد: وفاة المفكر الجليل الدكتور أحمد البغدادي.
يالله، كأن المصائب تتلاحق، نختنق بالأسى ونحن نلهث من وراءها.
"أبواب الحزن مشرعة"، قالها لي الصديق.
ومعه حق.
لكن سفنية التنوير تمضي. تحمل فكر هؤلاء الأجلاء، نصر حامد ابو زيد وأحمد البغدادي، ثم تمضي إلى الأمام. فلا يأس حتى مع هذا الحزن الذي ينز من قلوبنا.
تعلمت على يد الدكتور احمد البغدادي في جامعة الكويت.
معه ترسخت الكثير من المبادىء التي ترعرت عليها في كنف أبي: „ولد الإنسان حراً، وحريته في قدرته على الإختيار“.
أذكر اول عبارة قالها لنا - نحن طلابه وطالباته في مادة الفكر السياسي الإسلامي: "هذه المادة تهدف إلى إيصال المعلومة التالية: أنه لا وجود لفكرٍ سياسيٍ إسلامي!"
نظرت إليه يومها مندهشة متفكرة وقلت لنفسي مبتسمة: "هذه بدايةٌ مختلفة."
وكان مختلفاً بالتأكيد. وكم هو فخر أن يكون الإنسان مختلفاً في زمننا هذا.
أحببت هذا الإستاذ الجليل، فكره العقلاني المتمرد، وطريقته الحرة في التعليم والتدريس. وأحترمته. وأدين له بالكثير.
فعزائي لإسرته أولاً، وللعقلاء في الكويت ثانياً. لأن غيرهم سيشمتون، وهو متوقع منهم. فمن آمن بالكراهية لا يعرف المحبة، يدلف إلى الظلام، خوفاً من النور، ومن جوفه يصرخ بالمقت. وعن هذا الفكر أتحدث طوال الوقت. وفي مواجهته أطرح فكرة الإسلام الإنساني.
---
الله المحبة. قلتها لكما مرة.
هكذا استشعر وجوده، في، في داخل الإنسان، محبة.
نور ومحبة.
ولذا تجداني انفر من صورة الله التي يروج لها فكر الإسلام السياسي و الإسلام الارثوذوكسي بشقيه السني والشيعي. أنفر من هذه الصورة، لا بل ارفضها.
فالرب الذي يدعو إلى القتل، الذي يزرع الرعب في قلبي كي أؤمن به، الذي يبطش بالبشر، والذي يميز بين البشر، يفضل مجموعة على اخرى، الله الذي يعدل عندما يريد، والذي ينتظر الزلة منا كي ينزل علينا اشد انواع العقاب، ليس رباً.
ليس رباً.
بل تجسيد لخيال بشرٍ مريض، بشر يكره نفسه وواقعه، فيدعو إلى كراهية غيره، ثم يقول الله يكره.
ولذلك، لو كان الله هكذا فعلاً لما آمنت به.
دعوني أكرر هذه العبارة لأني قصدتها كما قلتها: "لو كان الله هكذا فعلاً، لن أؤمن به، بل سأكفر به".
لأن الصفات التي نلحقها بالرحمن يجب، اقول يجب لا حبذا، يجب ان تكون خيره، محبة، عادلة، منصفة.
الرحمن لذلك هو المحبة، الخير، وهو عادل، لا يميز بين خلقه، و يحبهم.
اتذكر حكاية قصتها علي سيدة كويتية تعرفت عليها خلال رحلة بحث ميدانية قمت بها في الكويت في عام 2008.
كانت تحيا حينها مع أسرتها بعد إنفصالها عن زوجها، هي وأبنها.
قالت لإبنها يوماً أمام افراد من عائلتها: "لا أريدك أن تخاف من الله، اريدك ان تحبه." فتعرضت إلى إنتقاد شديد من إسرتها:"ما هذا الذي تقولينه لإبنك؟"، جاءت ردة فعلهم عنيفة.
السيدة تنتمي إلى إسرة شيعية. وانا اشير إلى إنتماءها المذهبي لا لشيء إلا للتدليل على أني لا اقصد مذهباً محدداً عندما أنتقد الفكر الديني في صوره المتعددة التي نراها اليوم وتعامله مع الله، الكون، والحياة من بعده.
تساءلت وأنا استمع إليها عن سبب إنزعاج افراد اسرتها من رسالة هي في الواقع روح الإيمان.
أين المشكلة في أن يحب ابنها الله، وأن لا يخافه؟ أين المشكلة فعلاً؟
أنا أحب الله.
ولا أخافه.
كيف اخافه وأنا احبه؟
ثم كيف أخافه وهو، لأنه رب، لا محاله سيحب خلقه، أياً كان هذا الخلق.
لكن ليس هذا هدف فكر الإسلام الإرثوذوكسي بشقيه السني والشيعي، أو فكر الإسلام السياسي. ليست المحبة هدفهما. اليس كذلك؟
دققا قليلاًَ وستجدان ان هدف هذين النوعين من الفكر الديني لا علاقة له من قريب او بعيد بفكرة أن نؤمن بخالق او قوة أسمى.
ليس الإيمان هو الهدف. والمحبة أبعد ما تكون عن هذا الإيمان.
بل الطاعة.
الطاعة.
يريدان منكما أن تتعلما كيف تسمعا وتطيعا ولا تناقشا. كي يخلقا منكما شخوصاً مستنسخة تتحرك وفقاً لإهوائهما، وفي أوقات الضرورة تدفعكما إلى الكراهية، إلى الإقصاء، ثم العنف والقتل.
"لا تحبا بل إكرها. لا تبتسما بل تجهما. لا تفرحا بل إحزنا". ثم "إحقدا، وحبذا لو قتلتما."
القتل جريمة، لكن معهما نسمي القتل جهاداً. فتدبرا.
الطريقة التي يُرًّوج فيها للدين اليوم تعتمد لذلك على عنصري الخوف والكراهية.
"إذا لم تغطي شعرك سيحرقك الله في جهنم."
"إذا لم تصلي، فأنت كافر، وسيحق قتلك".
"إذا لم تتبع هذا المذهب تحديداً، فأنت من اهل النار بالتأكيد".
"إذا لم تؤمن بالجهاد، فقد كفرت".
"وهؤلاء، غُيرك، هم كفرة فإبتعد عنهم"
"هؤلاء لا يصلون كما نصلي، إسلامهم ناقص بالتأكيد".
"وهؤلاء ليسوا مثلنا، ومقتهم في قلوبنا واجبٌ بالتأكيد".
"عليك ان تؤمن هكذا، أن تصلي هكذا، أن تكون هكذا، وغيرك في جهنم وبئس المصير".
زرع الخوف في قلبيكما ضروري، يدفعاكما إلى الرعب وفي الوقت ذاته يؤصلان فيكما إحساساً دائماً بالذنب، بالذنب، لإنكما وفقاً لرؤيتهما تقترفان الكثير الكثير من الذنوب، مجرد إحساسكما بالحياة، فرحتكما بمتعها، يجعلكما مذنبين، تستحقان جهنم.
كل ما له علاقة بالجمال، بالحب، وبالخير يبدو مكروهاً من هذين الفكرين. وإذا اقدمُتما على الحياة سيشعراكما بالذنب من جديد.
ومع الخوف، الرعب، والذنب، يطوعا عقليكما على عدم التفكير، تتعلما كيف تطيعا، وترددا: "سمعاً وطاعة".
كالببغاوات.
طاعة عمياء.
لا تتفكرا في الكلمات، لا تتدبرا في معانيها، ولا في دلالاتها.
"عليكما أن تطيعا، ولا تناقشا".
ولذلك ستجدان أن احد اهم ملامح هذا الفكر هو رفضه للتفكير، رفضه للسؤال والشك: "إقبل بما نقول كما نقول، ولا تجادل، لا تجادل، عليك اللعنة إن فعلت".
وإذا شككتَ أو شككتي أصبحتما من المنافقين.
هكذا سيقولان لكما.
لكن الحياة دون شك، دون تدقيق، دون تساؤل، هي حياة عمياء، مشوهة لا عقل لها، ولا إرادة.
فلا تصدقا.
شُكا.
تساءلا.
ثم عيشا الحياة.
تعلما كيف تعيشا الحياة، بقوة، ولا تخافا.
وفي الواقع، عزيزي القاريء عزيزتي القارئة، فكرة الإسلام الإنساني التي أطرحها تقوم جوهراً على هذه هذه الدوائر المتشابكة الشك، الحياة، والمحبة.
تتعامل مع الإيمان من منطلق إنساني، من منطلق يشك ولا يقبل بمسلمات قاطعة، كل شيء يخضع للشك بما فيها نصوصنا المقدسة، والقرآن الكريم اولها.
تتعامل مع الدين من منطلق يعيده إلى حيزه الخاص، تؤمن أو لا تؤمن شأنُك، ثم تخرجه من الحيز العام، وتقول إن الدين لايهدف إلى خنق الإنسان بطقوس وشعائر، بل الهدف هو هذا الإنسان نفسه، كرامته وسعادته. ولذا فإن الحياة، التمتع بها، الحب، الجمال، كلها جزء ضروري لحياة إنسانية كريمة.
تتعامل مع الإنسان، رجلا كان أو امرأة، على أنه كائن عاقل راشد قادر على الإختيار، وتسيير حياته كما يشاء. كما يشاء. ولذا فإن أساس التعامل بين البشر ليس معايير دينية، بل معايير إنسانية، هو إنسان، هي إنسان، وهذا يكفي. أقبل بهما، كما اقبل بكما، دون شروط.
حديثي معكما لن يكون عاماً. وهو حديث طويل، احدد ملامحه لكما.
فكرة الإسلام الإنساني كما أطرحها لها عناصر أربعة: أولا، الهوية- إنسان؛ثانيا: إسلام يقوم على مبدأي "العقلانية" و"الحرية"؛ ثالثا، دوائر التفكير المغلقة - الطبيعة البشرية للنصوص المقدسة، ورابعاً،المرأة – إنسان.
الهوية هي الإنسان.
الإنسان أولاً، هو موضوع الحلقة القادمة.

الخميس، 5 أغسطس 2010

بأي كلمات أنعيك؟

لا. لم أبكِ.
بل كنت انشج بالدموع.
والحزن، أيُ حزن؟ حُرقْةٌ.
الروحُ حُرقْةٌ.
فقدُك ليس خبراً، تناولته وسائل الإعلام العالمية بإهتمام.
فقدُك مصابٌ.
فبأي كلمات أنعيك؟
الكلمات تخجل وتتوارى، لا تدري كيف تنعيك.
ولأنها لا تفي بك، الجأتني إلى الصمت.
أي والله، الجمتني. فصمت.
أبكي بصمت، والحزن يرن هو الآخر في نفسي بصمت.
كيف انعيك، إستاذي؟
هل اقول تركتنا، إستاذي المفكر الجليل نصر حامد أبو زيد، بجسدك. لكن روحك وفكرك، بقيا وسيبقيان معنا.
إبن رشد حاكموه، مثلك،حرقوا كتبه وأهانوه، ً كما فعلوا معك، لكن فكره إنتشر، واصبح اساساً لمنظومة فكرية جديدة. كذلك فكرك.
ومن اهانه، من تبجح عند موته، لن يجن سوى الخزي. حتى أمام الموت لا يخجل!
من حاكمك، سيدخل التاريخ لا لشيء إلا لإنه اراد ان يحاكمك . لكن التاريخ سينسى أسمائهم. والمفارقة ان رموز محاكم التفتيش ارادت لك ان تصمت. لكنها نجحت فقط في إيصالك إلى العالمية.
عندما وصلني الخبر كنت في تركيا. وعندما طبعت إسمك باللاتينية في جوجل توالت صفحات التأبين من اشهر صحف العالم، وبالعديد من اللغات. العالم كان ولا يزال يعرف قدرك. والحسرة أن كثيراً من أبناء وطنك، ذاك الذي احببته إلى درجة العشق، لم يعرفوا قدرك إلى يومنا هذا. تماماً كأبن رشد.
كل هذا قيل، وسيقال. لكنه لايفيك. لايفيك. من عَرفَك يدري أن هذه الكلمات لا تفيك.
لأنك لم تكن مفكراً فحسب، كنت إنساناً. ولإنك كنت إنساناً، كنت تخطيء وتصيب، لكنك بقيت دائماً خَيّراً، طيباً، وبريئاً. طيبتك كانت عنوانك. وإبتسامتك كانت روحها.
ولأنك كنت تؤمن بالإنسان في وطنك، بقيت مثقفاً مستقلاً.
أمنت دوماً بحق هذا الإنسان في الوجود بكرامة. تؤمن بضراوة. ولذا كان وجعه وجعك.
فكان لزاماً ان تكون مستقلاً، كي تكون جديراً بإسمك.
مستقلاً.
ليس لديك ما تخسره اكثر من مال لاتريده، ومنصب لا يغريك، وجاه لا يضيرك الإستغناء عنه.
هل تذكر؟ يوم أصريتُ على دفع حساب العشاء في لوتزن بعد أن القيتَ محاضرتك في الحلقة الدراسية التي شاركنا فيها عن الإسلام والحداثة في جامعة لوتزن.
غًلبتك، فقلتَ لي مازحاً: "طيب، سأحرمك من الميراث". فرددتُ عليك بلهجة والدتي: "هو أنتَ حِيلتك حاجة؟"، فضحكت من قلبك. ضحكة الإنسان الصادق المطمئن.
ولذلك كان صوتك مزعجاً للكثيرين.
صوت ضميرنا.
يدفعنا إلى الخجل من انفسنا.
صوت ضميرنا، الشاهد على التغيير الذي شهده عصرنا.
الشاهد على عصرنا.
أنت.
موتك كان مفاجئاً. والموت هو الوجه الآخر للحياة. والله أني اعرف ذلك.
لكنه في حالتك انت، لوعة، فجيعة، وخسارة، أيُ خسارة.
نشيجي اذهل اسرتي. لكن زوجي كان يعرفك هو الأخر، إلتقاك مرة، وسمع عنك مني الف مرة. ولذلك كان يعرف قدرك.
والدموع لذلك قليلة عليك.
صمت، دمع، ونشيج.
ثم بصيص.
كلمات زوجتك القديرة الدكتورة إبتهال يونس كانت البصيص.
قالت لي وهي تبكي فجيعتها في الرجل الذي كان زوجاً، صديقا، وحبيباً لها: "سأحيا كي أجعل إسمه وفكره باقياً".
هي المرأة التي قالت "لا"، لحكم جائر بتطليقها رغماً عنها وعن زوجها.
وهي الشريكة التي قال عنها زوجها في حديث صحافي: "نحن لسنا فقط زوجين، هي إستاذة جامعية، هي مثقفة، وهي ليست فقط زوجة تدعم زوجها، بل هي شريكة تدعم صديق لها".
وهي اليوم، تماماً كيوم صدور الحكم، تُظهر معدنها السامي من جديد.
تقول اليوم "لا" أيضاً.
موتك لن يكون النهاية.
الأمل باق.
لأن الفكر لا يموت.
يبقى.
والفكر مُعدي.
فالفكر لا يومن بالقيود، بالحدود، أو بالخوف، يخرج عن نطاقها، يقدم نفسه في حيز الأفكار، فينتشر في العقول، يتوالد، ويمتزج بغيره، ليخرج عنه فكر جديد، حياة جديدة.
حياتك لذلك تظل، رغم موتك، معنا.
في فكرك.
بيد أن موتك رغم ذلك لايطاق.
لا يطاق.
فبأي كلمات أنعيك؟

---
الصمت يأس.
وخلاصُنا في كسره، والنطق بالفكر كما نؤمن به.
هذا هو طريقنا.
أعود إليكما في المقال القادم.

الأحد، 4 يوليو 2010

مواطنون لا ذميون 10

مشادة كلامية عنيفة على الهواء مباشرة على قناة NTV المصرية جسدت دون لبس جوهر المعضلة التي ما فتئت احدثكما عنها.
معضلة التمسك بتطبيق قوانين الشريعة الإسلامية في عصرنا الحالي.
معضلة رفض فكرة الفصل بين الدين والدولة.
جرت المشادة بين الدكتورة سعاد صالح، أستاذة الفقة المقارن وعضوة الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين، التي إنضمت لحزب الوفد قبل يوم من المقابلة، وبين القيادي في حزب الوفد المصري صلاح سليمان وعدد من المشاهدين الذين اعترضوا على رأيها "الديني".
ردت الدكتورة سعاد صالح على سؤال المذيع جابر القرموطي في برنامج مانشيت عن حق المصري المسيحي في تولي رئاسة الدولة بالقول إنه لا يجوز دينيا وسياسيا أن يكون في يوم من الأيام الرئيس المصري مسيحيا،ولكي تدعم رأيها بالحجة أشارت إلى الآية القرانية "لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا".
أرادت ان تكحلها فعمتها.
لم تكتف بذلك، بل تابعت قائلة "لابد أن تكون الولاية من المسلم على الكافر وليس العكس، لذلك أباح الله زواج المسلم من غير المسلمة وليس العكس، لأن الولاية في الزواج تكون للرجل، كما أن القوامة تكون للدين الأعلى وليس الأدنى"، مؤكدة أن "شهادة غير المسلم على المسلم غير جائزة بالإجماع لأنه أقل دينا، إلا أن أبي حنيفة أباحها".
رد الدكتورة أنذاك كان واضحاً لا لبس فيه. هي تصف المسيحيين بالكافرين. تعتبر أن الإسلام هو دين "اعلى" من الدين المسيحي "الأدني"، ولذلك فإن الولاية هي للمسلمين "الأعلى" على المسيحيين "الأدنى".
المشادة الكلامية التي حدثت بعد ذلك اظهرت الهوة الفاصلة بين رؤية "دينية" تصر على تصنيف البشر حسب إنتمائاتهم الدينية، تضعهم في درجات، لا تعترف بحقوقهم إلا من زاوية هذا الإنتماء الديني، وفي الواقع لا تعترف أن هناك شيئا إسمه الوطن، وبين رؤية علمانية تصر على أن المواطنة هي المحك في تعامل الدولة مع مواطنيها، بغض النظر عن الإنتماء الديني أو النوع.
فالقيادي البارز في حزب الوفد صلاح سليمان إتصل بالبرنامج وأبدى انزعاجه الشديد من كلام الدكتورة، طلب منها توخي الحذر فيما تقوله من تصريحات تُحسب على حزب الوفد، ثم توجه بحديثه إلى المذيع قائلا "الدكتورة سعاد بتتكلم في الدين ومش بتتكلم كقيادة وفدية، لأن حزب الوفد حزب علماني وبيرفض كل الكلام ده، وبيطالب بالمساواة والمواطنة اللي من أهم بنودها حقوق الأقباط والمرأة في الوصول إلى الرئاسة".
فردت الدكتورة قائلة "إن اللي بيتكلم عنه الأستاذ صلاح أهواء بشرية، وده بيعارض الدين، وأنا موافقش على أهواء البشر.. وموافقش على ولاية لغير المسلم.. وأي حزب يتعارض مع الدين الإسلامي أنا مش هنضم له"، هنا واصل الأستاذ صلاح حديثه قائلا: "لا يجوز أبدا أن حد شغلته في الدين يطلع يتكلم في السياسة."
بطبيعة الحال إضطرت الدكتورة سعاد بعد يومين من المشادة إلى التراجع عن حديثها، تراجعت لتقول إن ما قالته كان فى معرض تولى الخلافة، وان نظام الخلافة انقرض وتحول الأمر إلى دولة مؤسسات، وعليه يصبح للمسيحي حق تولى رئاسة الدولة بينما يظل التحريم متعلقا بالخلافة، وإنها لا يمكنها ان تصف المسيحيين بالكافرين!
واللهِ؟
كل هذا، ولم يكن قصدها؟
يالله كم تأرجحت.
يالله كم تذبذبت.
يالله كيف تراجعت؟
تراجعت الدكتورة عن موقفها رغم وضوحه. فهي طوال حديثها كانت تتكلم عن "رئاسة الدولة" لا "الخلافة". وعن "الكافرين" في وصفها "للمسيحيين".
لكنها تراجعت. نحمد الله انها فعلت.
تراجعت، ربما لأن أحد المحامين قرر رفع قضية عليها لإثارتها الفتنة بين المسلمين والمسيحيين. ربما لأن هناك من همس في إذنها من دوائر عليا بأن "الأحرى أن تتحرى الدقة فيما تقول"، وربما لأنها وجدت أن المسألة جادة، وأن ماقالته خطير بالفعل.
ربما. نحن في الواقع لا نعرف دوافعها في التراجع.
كل ما نعرفه هو ما قالته على الهواء مباشرة، فالبرنامج موجود، وما قالته فيه يستحق الإدانة بالفعل.
---
رأي الدكتورة سعاد هو رأي "ديني" يعكس بوضوح رأي إجماع الفقهاء المسلمين، وهو رأي "ديني" تصر عليه قوى الإسلام السياسي، وعلى رأسها حزب الأخوان المسلمين، وقبله بالطبع التياران السلفي والشيعي.
وفي الواقع لن نجد فرقاً بين إجماع الفقهاء، وإجماع حركات الإسلام السياسي في هذا الشأن.
فهما في أحيان كثيرة يبدوان كما لو كانا وجهان لعملة واحدة.
لكن كونهم مجمعين على شيء، لا يعني أنهم على حق.
لمجرد أن جماعة من الفقهاء على مر التاريخ الإسلامي عبرت عن رأي لا يعني أبداً أنها تعبر عن رأي صحيح.
فالفقهاء المسلمين أجمعوا أيضا على مر القرون على أن إستعباد البشر "أمر جائز شرعاً".
وأتساءل، بخبثٍ طبعاً، ماذا لو طرح احدهم سؤالاً على الدكتورة سعاد عن "العبودية" هل هي جائزة شرعاً أم لا، هل سترد أيضا "الدين كده" كما ردت على المهندس نجيب ساويرس؟
فالدين "كده" فعلاً عندما يتعلق بمسألة العبودية.
لم يحّرمها، بل أشار إليها في أيات قرآنية كثيرة كواقع إجتماعي قائم.
وأقترح عليكما لذلك أن تقراءا كتاب "هداية المريد في شراء الجواري وتقليب العبيد: الأوضاع الإجتماعية للرقيق في مصر"، للناشر محمد مختار، الذي قرر الكتابة في الموضوع عام 1996 "دفاعاً عن الإسلام" كما يبدو.
إطلعا على الكتاب كي تريا كيف اجمع الفقهاء على التسري بالجواري، وأستخدام العبيد، وكيف خرجوا بمجموعة من القواعد، أجمعوا عليها ايضاً، في كيفية التعامل مع من يولد للجواري والعبيد من أطفال، يباعوا أو يحتفظ بهم أو يُعترف بهم (إذا كان الطفل من مالك الجارية).
الهدف كما إجتهد حتى تعّرق الناشر مختار في التأكيد "هو حفظ الإنساب، وتأمين عدالة التعامل مع العبد والجارية". لكن الناشر اللبيب لم يتساءل قط لِمَ لمْ يتخذ احدٌ من هؤلاء الفقهاء موقفاً يقول إن "إستعباد البشر لا يجوز شرعاً؟"
السبب بسيط، القرآن لا يدين هذه الممارسة، ولا يدعوا إلى إلغاءها. آياته كانت تعكس الواقع الإجتماعي للقرن السابع الميلادي على الأرجح.
ولأن الأمر كذلك، فإن الفقهاء لم يجدوا مفرا من "الإجماع" على أن العبودية، إمتلاك البشر، بيعهم وشرائهم، أمر "جائز شرعاً".
وإذا كان القرآن لم يدعو إلى إلغاء العبودية آنذك، والفقهاء اجمعوا من بعده على جوازه "شرعا"، هل نقبل بنتيجة هذا الإجماع؟
هل نقبل بإستعباد البشر؟
لا.
لن نقبله.
وبنفس المنطق، حديث الدكتورة يعكس إجماعاً هو الاخر.
إجماع يقول بأن الوطن لا وجود له، والمساواة بين المواطنين لا وجود لها، بل "الأمة" هي المحك، وهي "امة من مسلمين"، ومن يتبع دين اخر يعيش في هذه الأمة "كذمي"، يعيش في هذه الأمة "بأمان"، ولكن كجزء "دخيل" عليها، "جزء أدنى".
هذا الإجماع يعكس واقع المجتمعات في القرون الوسطى.
يعكس واقعا كان موجوداً.
لكنه لا يعكس واقعنا، في الواقع لا يعكس قوانين الدولة القائمة حالياً.
الدكتورة سعاد كانت تتحدث كما لو كانت تعيش في المملكة العربية السعودية. لا في مصر. مصر التي ينص دستورها على المساواة بين مواطنيها بغض النظر عن الدين.
ولعلها عبرت في الحقيقة عما هو ممارس فعلاً في الواقع. اليس كذلك؟
الدستور المصري يقول بالمساواة، ثم يخرج علينا في الوقت ذاته بعبارة "دين الدولة الإسلام" ويضيف عليها بأن الشريعة "مصدر اساسي للقانون". وكلاهما يدقان إسفيناً في نعش "الوطن".
والمجتمع تغير، أصبح مسعوراً بموجة التأسلم الشعبي، فنسي أن المصريين تميزوا دائماً عن غيرهم من الشعوب في المنطقة بعشقهم المجنون لأم الدنيا، مصر. ولأنهم كانوا كذلك، كانوا دوماً مصريين أولاً.
اليوم، اصبح الإنتماء دينياً. ولأن الإنتماء اصبح دينياً، إضطرت الأقلية المصرية المسيحية إلى الإنكفاء على نفسها، إنزوت، تسمع كل من حولها يقول لها إنها "مختلفة"، فبحثت هي الأخرى عن موطن "الإختلاف"، فلجأت إلى "الهوية الدينية" هي الأخرى كَمخَرج.
دائرة شرسة.
تعكس في الواقع الأزمة التي نعيشها في دول المنطقة.
أزمة فكر ديني، يرفض أن يخرج من دائرة القرون الوسطى، فتلقفته جماعات الإسلام السياسي، مستخدمة إياه كي تصل إلى "السلطة".
وأزمة دولة، لم تتمكن إلى يومنا هذا من التعامل مع مواطنيها على أنهم متساويين أمام قوانينها بغض النظر عن الدين والنوع. دولة لم تنجح إلى يومنا هذا من أن تكون وطناً لمواطنيها.
دولة تصر على التعامل مع مواطنيها بمعيار "إنتماء ما".
فلمن لا يعرف، في مصر هناك قوانين "غير مكتوبة"، يدعمها العرف، تقول بإن المصري المسيحي لا يمكنه ان يصل إلى مناصب "حساسة" أمنية وعسكرية. تماماً كما أن هناك قوانين "شفهية"، يدعمها الفقه السلفي، تقول بإن المواقع القيادية العليا في الجيش والحرس الوطني... محظورة على المواطنين السعوديين ممن ينتمون إلى المذهب الشيعي.
والمشادة بين الدكتورة سعاد والقيادي في حزب الوفد سليمان، عبرت عن هذه الأزمة بوضوح.
فالخلاف كان بين رؤية دينية قرواوسطية، اصبحت لها الغلبة في مجتمعاتنا، وبين رؤية حداثية علمانية، تكالبت عليها قوى الإسلام السياسي والفقهاء والفقيهات والدولة، فأصبح صوتها ضعيفاً محشرجاً.
والأزمة ستستمر ما دمنا نصر على إقحام هذه الرؤية الدينية في تنظيم حياتنا العامة، ومادامت الدولة تصر على أنها لا تمثل مواطنيها بل هي "حارس شخصي لإنتماءات دينية، طائفية، مناطقية، قبلية، او لمصالح شخصية".
الأزمة ستستمر، مادمنا نصر على أن ابناء وبنات الوطن "ذميون"، نتصدق عليهم بالأعتراف، نمن عليهم "بحق تولي منصب أو غيره"، كأننا اصحاب الوطن.
بيد أن الوطن ليس ملكاً لفئة دون غيرها من المواطنين. الوطن ملك للجميع.
ونحن جميعاً مواطنون.
مواطنون.
مسيحي يهودي كافر بوذي بهائي، أو مسلم - سني او شيعي- علوي، درزي، ذكر أو أنثى. كلنا مواطنون. مادمنا ننتمي إلى الوطن، فنحن مواطنون.
مواطنون متساوون.
والقانون والدستور (قانون علماني ودستور يحترم حقوق المواطنة والإنسان)، هما، لا القرآن، المحك.
القرآن ليس المحك.
الدين ليس المحك.
و الإنسان، سأكررها مادمت حية، الإنسان لا الإسلام، هو الحل.

---
في الحلقة القادمة، سأبدأ بالحديث عن العناصر الأربعة للإسلام الإنساني.

الثلاثاء، 1 يونيو 2010

الشريعة تنتهك حقوق المرأة 9

القانون يجب ان يكون عادلاً.
وعندما لا يكون عادلاً، يتوجب تغييره.
هذا كل ما أطالب به.
---
أكاد أجزم أننا كففنا عن الإيمان بالله.
وأننا استبدلنا هذا الإيمان بأصنام صنعناها لأنفسنا.
نعبد هذه الأصنام بدلاً من الخالق، او الصانع.
نعبد أصناماً جبلناها من افكارنا. وعندما يأتي من يقول "لكنها أصنام، نحن من وضعها"، ينقلبون عليه او عليها ويقولون "كفر هذا الفاسق/ الفاسقة".
مسكين أيها العقل. كم تعاني.
الصنم الذي وضعه الإسلام السياسي إسمه "الشريعة": "هذه هي الشريعة، نطبقها أو لا نؤمن". كأن "الرحمن" هو "الشريعة".
والدول العربية لأنها مأزومة بغياب شرعيتها، تجاري مد الإسلام السياسي والتأسلم الشعبي، تحني رأسها، ثم تشيح بوجهها، وتصمت.
ونحن أبناء وبنات هذه المجتمعات نخاف أن نفتح أفواهنا.
نخاف أن نشير إلى التناقضات التي نراها، إلى غياب مفهوم العدالة وإحترام معايير حقوق الإنسان والمساواة في الشريعة الإسلامية، وإلى ضرورة إستبدالها بقوانين وضعية مدنية علمانية عادلة.
نخاف أن نفتح أفواهنا، لأن من يطلق لسانه بكلمة الحق يواجه التسفية ثم التكفير.
فنقرر أن الأسلم أن نصمت.
وهذا بالتحديد ما يراهن عليه تيار الإسلام السياسي.
هذا بالتحديد ما يريده. أن نخاف، ثم نبحث عن السلامة في الصمت، وبعده الموت.
----
افضل مثال على ذلك قوانين الشريعة الإسلامية في تعاملها مع المرأة.
في الحلقة الماضية وضعت إطاراً للمباديء التي يقوم عليها القانون السويسري للعائلة. وكان واضحاً أنه قانون مدني علماني عادل.
قانون لا يفرق بين الذكر والإنثي، يحترم كيانهما كبالغين راشدين، ويحترم حقهما في المساواة في الحقوق والواجبات.
وإختياري للقانون السويسري لم يأت إعتباطاً.
لم أختاره كما اشارت قارئة كريمة، غاضبة، كي أدلل على تخلفنا. بل أخترته عامدة متعمدة لأن سويسرا لم تكن إلى عهد قريب النموذج الذي يحتذي به في قضية المساواة بين الرجل والمرأة. هي الدولة الأوروبية الوحيدة التي لم تبادر إلى منح المرأة حقوقها السياسية في التصويت والترشيح إلا في عام 1971. وإضطرت المحكمة السويسرية الدستورية ان تجبر كانتون أبنزلر إنّرهودن عام 1990 على السماح للمرأة بالدخول في العمل السياسي لأن هذا الكانتون (او الولاية) ظل مصمماً على رفض مبدأ حق المرأة في المشاركة السياسية.
نفس النسق نجده عندما يتعلق الأمر بقانون الأسرة السويسري قبل تعديله. قبل تعديله كان القانون متحيزاً ضد المرأة. كان لا يسمح للمرأة بالعمل إلا بموافقة زوجها. وكان الرجل هو الذي يحدد مكان إقامة زوجته. كان الرجل بكلمات اخرى هو الوصي.
لكن لأن القوانين تتغير مع تغير رؤية الإنسان وطبيعة المجتمع، وصل المشرع والمشرعة السويسريين إلى قناعة أن مثل هذه الوصاية تنتهك ادمية المرأة. تتعامل معها على أنها قاصر. ولذلك تغير القانون عام 1988.
أنا إذن على قناعة أن مسألة حقوق المرأة مسألة إنسانية، وإنتهاك هذه الحقوق متواجد في كل الثقافات والأديان والمجتمعات.
مشكلتنا في ثقافتنا العربية الإسلامية هي أصرارنا على التمسك بقواعد تنتهك حقوق الإنسان، ونبرر هذا الإصرار بالدين.
ثم نزيد على ذلك بالقول "الله يريد هذا".
الله بعزته هو الذي يريدنا أن ننتهك أدميتنا؟
بل هم رجال ونساء، تشربوا بثقافة تمييزية، من يريدون.
الله لا دخل له في الموضوع.
----
أقول إن قوانين الشريعة الإسلامية تنتهك حقوق المرأة. وأدري أن قولي هذا يصدم الكثيرين. وبعضكن سيصرخ في وجهي أني جانية، عميلة، أخدم مصالح "الأجانب"، وأني جزء من مؤامرة لتدمير مجتمعاتنا العربية الإسلامية.
كل هذا قيل لي في الرسائل الإليكترونية التي تلقيتها منذ بدءي لهذه السلسلة عن الإسلام الإنساني. كل يوم.
أقرأها ولا أغضب، رغم ألمي. فأنا أدرك أننا أعتدنا منذ تفتحت أعيننا على الحياة على ثقافة تصر على أن "الشريعة" رديفة "للعدالة".
وعندما نستمع إلى هذا القول ليل نهار، ليل نهار، ليل نهار، سيكون من الصعب علينا أن نستمع لرأي مغاير. سيكون من الصعب علينا أن نستمع إلى جملة "الشريعة ليست رديفة للعدالة".
رأي لا يعتمد على صفة العموم، الصفة العزيزة على قلب مروجي الإسلام السياسي أوالداعمين لرؤية كلاسيكية أرثوذكسية لمفاهيم الإسلام الحنيف.
أحدد ملامحه أمامكما.
----
لو نظرنا إلى الكيفية التي تتعامل بها أيات القرآن الكريم مع المرأة، يمكننا أن نحدد مستويين. الأول يشير إلى أن المرأة والرجل يقفان متساويين أمام الخالق عز وجل. وهو إتجاه برز واضحاً عندما بدأت بعض النساء في عهد الرسول الكريم في التساؤل عن سبب تخصيص القرآن خطابه للذكور من اتباع النبي، فجاءت أيات قرآنية تطمئنهن بأن عملهن مساو لعمل الرجل وأن هذه المساواة ستكون في الأخرة. لن أتطرق إلى أن كثيراً من الأيات القرآنية في أحاديثها عن متع الجنة كانت موجهة للذكور، هذا موضوع أخر. المهم، أن هناك مستوياً يمكن تحديده يقول إن المرأة مساوية للرجل أمام الله عز وجل.
المستوى الثاني في الآيات القرآنية في المقابل يرى أن المرأة غير متساوية مع الرجل في الحقوق والواجبات أمام القانون. عدم المساواة هذه تتبدى في قواعد الطلاق، في قضية تمتع الرجل بالمرأة جنسياً "أينما شاء"، وفي الزواج بأكثر من إمرأة (أربعة إضافة إلى الجاريات، أي العبيد، لا تنسيا عبارة "ما ملكت أيمانكم") ، في الميراث، في شهادة المرأة، وفي إستخدام الضرب لتأديب المرأة "الناشز"... الخ. هذا مستوى يعكس واقع القرن السابع الميلادي لشبه الجزيرة العربية وبالتحديد المناطق التي صِيغت فيها آيات القرآن. لا يتعامل مع المرأة على أنها والرجل متساويان أمام القانون في الكرامة والحقوق، وهو التعبير الذي نستخدمه اليوم عند حديثنا عن حقوق الإنسان. بل رفع الرجل درجات درجات. وجعل المراة في مرتبة إجتماعية أدنى.
والمشكلة أن الأتجاه العام للفقهاء المسلمين على مدى القرون الأربعة عشر الماضية، مع بعض الإستثناءات، عمد إلى ترسيخ المستوى الثاني لعدم المساواة بين الرجل المرأة.
تجاهل المستوى الأول كأنه لم يكن، ثم عمد إلى تعميق الهوة بينه وبين المستوى الثاني. لأن الفقهاء، وأنتما أدرى، يتحدثون بلغة مجتمعهم، مجتمع قبلي، تسود فيه عادات وتقاليد ذكورية أبوية تكاد لاترى للمرأة دوراً سوى كونها بضاعة متعة، ثم زوجة وأم.
النتيجة هي قواعد وقوانين تتعامل مع المرأة على أنها قاصر تحتاج إلى الحماية...من يوم مولدها إلى يوم دفنها.
سأتخذ من جديد محاور الزواج والطلاق والميراث في قواعد الشريعة الإسلامية أساساً للمقارنة.
----
الرؤية الفقهية للزواج تتعامل معه على أنه عقد بين رجل وولي أمر المرأة (بإستثناء المذهب الحنفي المعمول به في مصر) يحل به للرجل ممارسة الجنس مع المرأة. رؤية تحول الزواج، الذي يفترض فيه أن يكون علاقة مودة ورحمة وشراكة بين شخصين، إلى عقد بيع وشراء. يتمتع به الرجل بالمرأة. لم أسمع تعريفاً للزواج يحدده بعقد تتمتع فيه المرأة بالرجل. ولاحظا أن مجرد طرح الموضوع بهذه اصياغة سيثير الكثير من صرخات الإنزعاج والغضب والإدانة، لأن المسألة مقلوبة. الرجل هو من يتمتع بالمرأة. هكذا هي القناعة السائدة. أما المرأة فعليها أن تلبي طلبات زوجها الجنسية. متى شاء أينما شاء، أرادت هي أم لم ترد.
والرؤية الفقهية للزواج تجعل من موافقة ولي الأمر محوراً وشرطاً جوهرياً لزواج المرأة. المرأة هنا ليست شخصاً بالغاً قادراً على إختيار شريك حياته دون وصاية. بل قاصر. قاصر يتوجب عليها الحصول على موافقة ولي أمرها كي تتزوج. وإذا لم تحصل على هذه الموافقة ستواجه الكثير من المشاكل والعراقيل، وستضطر إلى اللجوء للقضاء كي تثبت ان ولي امرها يعضلها، كي يزوجها القاضي.
هل هذا عدل؟
موافقة الفتاة او المرأة على الزواج في المقابل تم تحديدها وفقاً للشريعة بصمت الفتاة إذا لم يسبق لها الزواج (وهي ستصمت فعلاً إذا كانت خائفة) لكنها إشترطت موافقة المرأة قولاً إذا كانت ثيباً، أي سبق لها الزواج.
لكن موافقة الفتاة أو المرأة لا تعني في الواقع شيئا إذا لم يكن ولي الأمر راضيا عن زواجها. لأنه إذا أراد ولي الأمر تزويج الفتاة غصباً عنها فإنه قادر على فعل ذلك. هذه هي المشكلة، في الواقع هذه هي الطامة. فمعظم المذاهب الإسلامية (بإستثناء المذهب الحنفي) عندما ترجمت هذه القواعد على أرض الواقع، خاصة في بلدان شبه الجزيرة العربية، تركت المجال لولي الأمر كي يزوج الفتاة حتى دون علمها. قانون الأسرة الكويتي على سبيل المثال لا يشترط وجود الفتاة عند عقد الزواج. كل ما يطالب به هو وجود الزوج وولي الأمر. كأن الفتاة لا علاقة لها بالأمر. بضاعة تتحول ملكيتها من الأب إلى الزوج.
اليس هذا ظلماً؟
ولهذا نسمع كثيراً عن حالات مفجعة يتم فيها تزويج فتيات في اليمن والسعودية والكويت دون علمهن، ليكتشفن بعد عدة سنوات أنهن متزوجات! تزوجن غيابيا!
هل هذا عدل؟
لن اسهب كثيرا في إشتراط أن يكون زوج المرأة المسلمة مسلماً، ومنعها من الزواج من أهل الكتاب. فهذا الشرط، الذي لم يرد في القرآن، أجمع عليه الفقهاء لسبب بسيط: هو إجماع يعكس رؤية أغلبية مسلمة ترغب في تذويب كل الأقليات الدينية المتواجدة في مجتمعاتها. ولذلك لا يجد الفقهاء مانعاً من تزويج المسلم من غير المسلمة. فقناعتهم أن المرأة ستتبع رجلها في الدين في كل الأحوال، تماماً كما يتصورون أن المرأة هي تُبّع للرجل.
كما لن اتحدث عن مبدأ "الكفاءة" الذي خرج به علينا الفقهاء، كي يلتفوا على حق المرأة في إختيار شريك حياتها. إذا كان هذا الشريك "غير كفء"، مذهبياً أو قبلياً أو إجتماعياً، يمكن لولي الأمر أن يطالب بفك عقد زواج المرأة.
ولن أتحدث عن ضرورة أن "تطيع" المرأة زوجها. وهي طاعة ربطها الفقهاء بنفقة الزوج على زوجته. كأن المرأة "عاملة" تأخذ "اجرأً" وعليها لذلك أن "تؤدي واجبات"، منها "الطاعة". و"الطاعة" تشمل الجانب الجنسي. ولم أسمع عن إمرأة تطالب زوجها العاطل عن العمل بأن يطيعها جنسيا. أظن، والرحمن أعلم، أن الفقهاء لن يوافقوها على هذا التفسير.
كما لن أتحدث عن سن الزواج، الذي حدده الفقهاء بشرط البلوغ، تاركين المسألة للإعتباط، فلو بلغت المسكينة وهي في التاسعة ستتزوج. طفلة نزوجها، ولا نجد غضاضة في ذلك؟ بل الأغلبية منا ترفض ذلك، لكنها صامتة.
لن أتحدث أكثر عن هذه الجوانب. يكفي فقط القول إن الرؤية الفقهية الشرعية للمرأة لا تعتبر المرأة إنسان عاقل راشد بالغ ومستقل، مستقل، قادر على إتخاذ قرارته بإستقلالية ثم على تحمل مسؤوليتها.
طفلة. يحملونها من مهدها إلى كفنها. وعندما تصرخ معترضة، يقولون "طفلة تصرخ. كفي عن الصراخ أيتها الطفلة".
---
ماذا عن الطلاق؟
من جديد يبدو تحيز الشريعة للرجل وظلمها للمرأة واضحاً.
الرجل له الحق في تطليق زوجته بثلاث كلمات، طالق طالق طالق.
ثلاث كلمات ينطق بها يهدم بها كيان أسرة.
والرجل له الحق في أن يطلق زوجته دون أن يبدي سبباً لذلك. مزاجه أن يطلق. طلق.
كبرت المرأة، هرمت، وتعبت. طلق القديمة.
زوجته الجديدة شابة وملاعبة، تريده لها. طلق القديمة.
"صوتها إرتفع علي". طلق القديمة.
ليس مجبراً على إبداء أي سبب. ولذا إذا أراد أن يطلق سيطلق. الشريعة تقول له “هذا حقك”. والحق إذا جاء مطلقاً يتحول إلى تعسف وجبروت.
اليس هذا ظلماً؟
المرأة في المقابل، كي تحصل على الطلاق، أمامها ثلاث خيارات، إما أن يكون الرجل إنساناً فيوافق على الطلاق، وحينها ستكون المسألة محسومة، أو يتوجب عليها أن تثبت أن زوجها يسيء معاملتها، وهنا عليها أن تتحول إلى القاضي، الذي قد يكون متعاطفاً معها أو متحيزاً ضدها، هي وحظها.
هي وحظها.
هل هذا عدل؟
الخيار الثالث، هو الخلع، الذي يعطي للمرأة الحق في طلب الطلاق دون إبداء أسباب، لكن عليها أن ترد له المهر، وتتنازل عن حقوقها المالية أي المؤخر. عادة ما تلجأ المرأة إلى هذا الحق بعد أن تكون قد ذاقت الآمرّين، وعندما تلجأ إليه يتوجب عليها أن تتنازل عن الضمانة المالية الوحيدة التي وفرتها لها الشريعة؟
هل هذا عدل؟
والأدهي ان بعض قوانين الأسرة العربية، كالقانون اليمني على سبيل المثال، يشترط موافقة الزوج على الخلع، وكأنك يازيد لا رحت ولا جيت.
هل هذا عدل؟
----
ماهي الحقوق المالية للمرأة بعد الطلاق؟
ثلاثة أشهر نفقة (لن ننسى نفقة المتعة، تمتع الرجل بالمرأة، كأنها شيء يتم إستخدامه، إستهلاكه، ثم التعويض عنه)، والمؤخر الذي تم الإتفاق عليه في عقد الزواج. ولن يكون هناك فرقاً بين ثلاثة اشهر زواج أو ثلاثين عاماً من الزواج. فالمبلغ هو هو، ثلاثة أشهر نفقة!!
مادامت المرأة لم تكن "ذكية" وأقنعت الرجل بكتابة البيت أو نصفه بأسمها، فإنها عند الطلاق ستخرج إلى الشارع، أو تعود عالة على أهلها.
هل هذا عدل؟
تكون المرأة محظوظة إذا كان لديها أطفال، لأن على الرجل ان يدفع نفقة لأطفاله، إذا كانوا يعيشون لديها. لكن الوصاية تظل دائماً للرجل، حتى لو كان الأطفال لديها. ولذلك نسمع عن حالات ترفض فيه مستشفيات دخول الطفل إليها دون وجود إذن من الأب المطلق، حتى لو كان مسافراً في الخارج.
كأن الأم لا شيء.
شيءٌ لا يُعتد بوجوده.
----
حق المرأة في الميراث يظهر من جديد الرؤية القبلية العشائرية للمرأة في الشريعة الإسلامية.
آيات القرآن الكريم في مسألة الميراث جاءت لتعكس رؤية قبلية عشائرية للمرأة تفترض أن الرجل هو من سيتحمل مسؤولية النساء في عائلته/قبيلته. وهي رؤية متطورة في وقتها، لأن النساء في بعض مناطق شبه الجزيرة العربية (وليس كلها) كن لا يرثن أزواجهن، والفتاة لا ترث أبوها. لكنها اليوم لا تعبر عن عدالة بل عن تمييز لصالح الذكر في الأسرة. الذكر يرث ضعفي ما ترثه أخته، والزوجه ترث الثمن من زوجها. وإفتراض ان الأخ أو الأبن سيعيلهن لم يعد مقنعاً اليوم. لأن المسألة في النهاية ستتحول إلى منة يقدمها الذكر أو يمنعها، فتضطر المرأة إلى اللجوء إلى القضاء.
هل هذا عدل؟
----
الشريعة تنتهك حقوق المرأة لأنها ترفض مبدأ حق المرأة في التمتع بنفس الحقوق والواجبات التي يتمتع بها الرجل أمام القانون. هكذا، دون شروط.
دون شروط.
بل تتعامل دائما من منطلق يصر على أن المرأة مساوية للرجل في الكرامة وليس في الحقوق. إنتبها، في الكرامة وليس في الحقوق. رغم أن الأثنان يأتيان معاً، الكرامة والحقوق. إذا تغاضينا عن واحدة دون الأخرى، أنتهكنا حقوق الإنسان.
الأثنان يأتيان معاً: ولد الإنسان حرأً في الكرامة والحقوق.
الإنسان. رجلاً كان أو إمرأة. متساويان في الكرامة والحقوق.
ولأن الشريعة لا تقر بهذا المبدأ فإنها غير عادلة.
والقانون يجب ان يكون عادلاً.
وعندما لا يكون عادلاً، يتوجب تغييره.
هذا كل ما أطالب به.
----
في المقال القادم من هذه السلسلة أقدم لكما مثالاً أخراً عن الكيفية التي تتعامل بها الشريعة الإسلامية مع الأقليات الدينية.

الخميس، 6 مايو 2010

قانون مدني علماني عادل 8

قلت لكما في المقال السابق ان قوانين الشريعة ليست عادلة.
لكني أكدت في الوقت ذاته أن قولي هذا لا يعني أني أتحدث من خارج دائرة الإسلام، بل اتحدث من داخلها.
وقلت لكما أيضاً اني لا أريد أن اتحدث بصفة العموم، تلك التي يتقن صناعتها أتباع حزب الأخوان المسلمين، واقرانهم من السلفيين أو المتحزبين بإسم الله.
وأفضل لذلك أن اقدم لكما مثالاً واضحاً محدداً، وأن اقارن، بين قانون الأسرة السويسري لعام 1988 وقوانين الشريعة الإسلامية الخاصة بالعلاقة بين الرجل والمرأة داخل العائلة.
أقارن بينهما لأني اتعامل مع قوانين الشريعة الإسلامية على أنها منظومة قانونية... إنسانية.
منظومة قانونية وضعها بشر.
وفقاً لهذه الرؤية فإن الشريعة الإسلامية عبارة عن قوانين، مجرد قوانين، صاغها علمائنا الأفاضل على مدى القرون الماضية لتنظيم شؤون المجتمع الذي كانوا يخاطبونه. وكما أن المجتمعات والعادات والتقاليد تتغير مع تغير الزمن، كذلك يتوجب تغيير القوانين بما يتماشى مع العصر الذي ينظمونه. الشريعة ليست إستنثاءا.
ورغم أن احد مصادر الشريعة الإسلامية هو القرآن الكريم فإنها تظل إنسانية. نضم قوانينها بشر.
لا اضفي صفة القداسة على الشريعة الإسلامية. لأنها ببساطة ليست مقدسة.
فكر الإسلام السياسي هو الذي اضفى هذه القداسة على الشريعة الإسلامية، هو الذي ظل يتحدث عن الشريعة كما لو كان تطبيقها سيخرجنا من كل المأزق السياسية والإقتصادية والإجتماعية التي تمر بها مجتمعاتنا. وكل ما نجح فيه هو إعادتنا قروناً إلى الوراء.
أصبح من مطالبهم اليوم إغتصاب الطفلة بإسم الشريعة. ويتعمدون إستخدام الشريعة كبديل لإسم الله. بإسم الله نغتصب الإطفال؟ أي عار هذا يارحمن.
أخر مثال على ذلك الحملة التي يشنها شيخنا الزنداني ضد قانون يمنع زواج الطفلات في اليمن. يريد للطفلات، بنت الثامنة، بنت التاسعة، بنت العاشرة، ان يغتصبن.
لا يريدهن طفلات. يأبي عليهن ان يعشن طفولتهن، أن يلعبن، أن يتعلمن، وأن يكن.
يريدهن دمى، يستغلهن جنسياً، كأنهن اشياء، لا روح لهن، لا إحساس.
أشياء يضاجعها ولا يخجل.
أين الحياء ياشيخنا؟
فكر الإسلام السياسي هو الذي اضفى صفة القداسة على الشريعة، يشبع بها خيالاته المريضة، ويستخدمها في الوقت ذاته كشماعة لتحقيق مأربه السياسي، كي يحوز على السلطة والقوة.
ولنا في شيخنا مثالاً. فهو يهدد الحكومة اليمنية بمسيرة مليونية إذا صدر قانون يمنع زواج الطفلات، ويلمح لها في الوقت ذاته "حذار من الإقتراب من تيارنا الديني الداعم للفكر الجهادي".
لا تنسيا إسم الجهاد الحقيقي، إسمه إرهاب.
---
ماعلينا.
لنبدأ إذن هذه المقارنة.
سأستخدم ثلاثة محاور للمقارنة: الزواج، الطلاق، ثم الإرث. وسأركز في هذا المقال على القانون السويسري، على أن اعود إلى قوانين الشريعة الإسلامية في المقال القادم.
قانون الأحوال الشخصية السويسري لا ييستخدم كلمة ذكر او أنثى، رجل أو إمرأة، في بنوده.
لا يستخدمها.
يشير دائما إليهما بصيغة الزوجين، أو طرفي العلاقة.
بكلمات اخرى، هو يستخدم لغة محايدة، لا ترى أن هناك فرقاً بين الذكر والإنثى في الحقوق والواجبات.
لافرق بين الذكر والأنثي في الحقوق والواجبات.
هذا لا يعني انه لا يرى بوجود فروقات بيولوجية بين الذكر والأنثي. هذه الفروقات طبيعية، لكنها لا تعني كما لا تبرر أية تفرقة عنصرية تمييزية بينهما بسبب نوع احدهما.
فكون المرأة خُلقت إمرأة ليس نقصاً في كيانها. ليست أدنى. بل هي إنسان كامل الصفات والخصائص والقدرات. والرجل أيضا مثلها. هو إنسان. كامل الصفات والخصائص والقدرات.
كلاهما إنسان. ولذا هما متساويان.
بكلمات اخرى، هو يتعامل مع الرجل والمرأة على أنهما شخصان بالغان عاقلان يتحملان مسؤولية نفسيهما، لا يخضعان لوصاية، ولذلك هما متساويان.
على هذا الأساس يبني القانون بنوده.
ولذلك يمهد لهذة الرؤية في المادة 8، البند الثالث، عندما يقول إن" الرجل والمرأة متساويان، وعلى القانون مسؤولية توفير المساواة القانونية والفعلية لهما...".
ليست مساواة قانونية فقط تلك التي نسعى إليها، بل نريدها أيضا فعلية، ولذا يجب ايضا تطبيقها على ارض الواقع. أمر ادركه القانون السويسري عام 1988.
عندما يتعلق الأمر بالزواج، ينص القانون في المادة 94 "كي يتم الزواج، يتوجب ان يكون العروسين قد أتما السنة الثامنة عشر من عمرهما، وأن يتمتعا بالمقدرة على التمييز".
لا توجد وصاية هنا على العروسين، رجلاً كان او إمرأة. مادام الشخصان، الرجل والمرأة، بالغين، وأختارا الزواج فإنهما قادران على فعل ذلك.
المرأة والرجل وفقا لهذه الرؤية مستقلان لا يحتاجان إلى وصاية أو ولاية. وهما قادران على الأختيار، لأنهما ولدا احرارا.
ولد الإنسان حراً.
وحريته تسلزم حقه في إختيار شريك حياته. رجلاً كان أو إمرأة. دون وصاية. دون قهر.
لكن كي يفعل ذلك، عليه أن يكون بالغاً.
الأطفال لا يتزوجون. الأطفال يلعبون.
هكذا يفكر اصحاب العقول.
ونحن لنا عقول.
حبذا لو إستخدمناها.
----
على صعيد اخر، لا يضع القانون السويسري معوقات امام زواج الأفراد بسبب إختلاف الدين. في الواقع لايضع القانون السويسري أية معوقات امام زواج شخصين مادام الإثنان غير متزوجين، ولا تجمع بينهما صلة قرابة عائلية.
من حق المسيحية ان تتزوج من المسلم، أو من البوذي او اليهودي او الملحد. والعكس صحيح.
مادام إلإثنان ينتميان إلى النوع البشري، يمكنهما الزواج.
إختلاف الدين ليس سبباً لمنع الزواج.
هذه الرؤية اخذت وقتها حتى قَبل بها المجتمع السويسري.
ففي الماضي، تماما كما اليوم لدينا، كان من الصعب على فتاة تنتمي إلى الديانة الكاثوليكية المسيحية الزواج من شاب مسيحي بروتستانتي، ناهيك إذا كان ينتمي إلى ديانة اخرى. المجتمع نفسه كان يرفض ذلك.
لكن المجتمعات تتطور، ولذا عكس القانون السويسري في عام 1988 هذا التطور في الرؤية:
"مادام الإثنان ينتميان إلى النوع البشري، يمكنهما الزواج".
والمسألة لدينا ستأخذ ايضاً وقتها.
لكنها ستتغير.
سيأتي يوم يمكن فيه للمسلمة ان تتزوج من اي رجل كان، إذا ارادت، إذا رغبت، طالما ينتمي إلى النوع البشري.
لأن المجتمعات تتطور.
ونحن شعوب قادرة على التطور.
----
في حالة الطلاق لا يفضل القانون الرجل على المرأة، أو العكس، بل يلتزم بوعده: كلاهما متساويان. ولذلك كي يتم الطلاق يجب ان تنظر فيه محكمة. الطلاق هنا ليس حقاً للرجل. ليس لعنة أو سلاح يسلطها على المرأة كي يروعها.
الطلاق هو "حل"، "حل مر"، "حل مؤلم"، يلجأ إليه الطرفان إذا لم يتمكنا من الحياة معاً كزوجين.
وهنا يوجد نوعان من الطلاق: النوع الأول هو الذي يمكن البت فيه سريعاً إذا اتفق الزوجان على الطلاق.
مادام قرر الزوجان ان إستمرار الحياة الزوجية مستحيل، فإن المحكمة ستحترم قرارهما وتصدر قرار الطلاق. هما بالغان. عاقلان. كلاهما إنسان. وإذا إتفقا على الإفتراق فإن من واجب القانون ان يحترم هذا القرار .
لكن إذا رفض احدهما الطلاق، رجلاً كان أو إمرأة، فإن المحكمة هنا ستصدر حكم الطلاق بعد فترة إنفصال بين الطرفين مدتها عامين، أو إذا تقدم احدهما بطلب يؤكد فيه إستحالة الحياة الزوجية لعدم إتفاق الشركين. الإفتراق ممكن إذا تعسف احدهما، رجلاً كان أو إمرأة، لكن له شروط، يمكن الإيفاء بها.
---
ما الذي يحدث بعد الطلاق؟ ماهي الحقوق المالية للطرفين؟
كل ما بناه الزوجان وجمعاه معاً في فترة حياتهما الزوجية يتم إقتسامه بينهما بالمساواة، حتى لو كان أحد طرفي العلاقة لايعمل.
بالمساواة.
فالحياة الزوجية هي تعاون مشترك بين طرفين، وبقاء احدهما في المنزل لرعاية الأطفال، هو أيضاً عمل. وعمل مهم.
ولذلك الثروة التي جمعاها، أو البيت الذي بنياه، او، أو، يتم إقتسامهما بينهما.
بالمساواة.
مبدأ عادل.
إذا كان هناك اطفال فإن الوصاية يمكن ان يتمتع بها الأب والأم معاً، بالمناصفة.
لكن القانون يحبذ بقاء الأطفال لدى الأم. رؤية عادلة تتحيز لإحتياجات الطفل.
وفي كل الأحوال فإن الوصي على الأطفال، أي الأب أو الأم، أو الأثنان معاً، يتمتع بحق تولي الشؤون القانونية للطفل وتمثيله. لا فرق هنا بين رجل وإمرأة.
والمحك في كل هذا هو مصلحة الطفل. كل ما يصب في مصلحة الطفل سيكون المعيار الذي تستخدمه المحكمة كي تصدر قرارها. هكذا ينص القانون. هكذا يُطبّق القانون.
وبنفس النسق، فإن الشخص الذي يعمل في العلاقة الزوجية هو الذي يتوجب عليه أن يدفع مبلغاً شهرياً لإعالة أطفاله.
اقول الشخص، لأن هذا يعني أنه إذا كان الرجل لا يعمل والزوجة تعمل فهي التي ستدفع المبلغ.
هنا لا يميز القانون فعلا بين الرجل والمرأة، كما لا يتعامل مع المرأة على أنها كائن ضعيف. في الواقع، هي كائن قوي، قادرة على الإعتماد على نفسها، وعلى إعالة نفسها وغيرها.
من جديد، هذه الرؤية في القانون السويسري تعكس التغير الذي حدث في المجتمع، وتغير رؤيته للمرأة. ليست كائناً ضعيفاً مسكينا. بل إنسان. إنسان بالغ راشد قادر على الإعتماد على نفسه.
----
ماذا عن الإرث؟
ماذا يحدث إذا مات أحد الزوجين؟
القانون هنا يعتبر ان لأسرة المتوفي المباشرة الحق في الإرث.
هذا يعني، أن الزوجة (أو الزوج إذا كانت المتوفية هي الزوجة) تحصل على نصف الأرث. والنصف الثاني من الإرث يتم إقتسامه بين الأطفال بالمساواة، دون تمييز بسبب النوع.
لافرق بين ذكر أو إنثى في الإرث.
كلاهما يحصلان على حصة متساوية.
في حالة لم يكن للزوجين أطفال، فإن طرف العلاقة المتبقي على قيد الحياة يحصل على ثلاثة ارباع الإرث، والربع الأخير لوالدي المتوفي.
إذا كان والدي المتوفي متوفيان هما ايضاً، فإن طرف العلاقة المتبقي على قيد الحياة يحصل على كل الإرث.
القانون يحمي أيضاً اطفال المتوفي (او المتوفية) وشريكته (شريكها) في الحياة. بكلمات اخرى، حتى لو كتب المتوفي وصية يحرم فيها أطفاله أو شريك حياته من إرثه، أو يميز بين احدهم، فإن القانون لا يقبل بمثل هذه الوصية.
حق هؤلاء في إرث الشخص، ذكر كان أو أنثى، مصون.
مبدأ عادل. لا يقبل التعسف او التمييز في الحقوق.
---
القانون السويسري ببساطة لا يميز بين الرجل والمرأة في العلاقات الأسرية. لا يتحيز لطرف ضد أخر. يتعامل معهما على أنهما بالغان راشدان متساويان.
هو قانون مدني إنساني عادل.
قانون عادل.
"هذا كل ما نطالب به. ان تكون قوانينا عادلة".
وهذه الرؤية لم تأت بين ليلة وضحاها. فكما قلت لكما هذا القانون صدر عام 1988. قبل ذلك كان القانون السويسري يميز ضد المرأة، ويعتبر الرجل وصياً على المرأة. قبل ذلك كان المجتمع يتعامل من منظور ابوي ذكوري مع المرأة. حتى في هذه كلنا بشر.
لكن لأن المجتمع تغير، فإنه أدرك ان التمييز ظلم يقع على المرأة، وان هذا الظلم إنتهاك لأدميتها وحقوقها الإنسانية، ولذا تغير القانون ليعكس التطور الذي حدث، وليعبر عن مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة.
مبدأ إنساني. مبدأ عالمي.
ولد الإنسان حراً.
رجلاً كان أو إمرأة.
وحريتهما تستلزم تمتعهما بالأرادة.
دون وصاية.
حريتهما تسلتزم ايضاً مساواتهما.
-----
هذه الرؤية، التي تحترم الإنسان، رجلاً كان أو امرأة، وتتعامل معه على أنه بالغ راشد عاقل، لا يحتاج إلى وصاية، غائبة في قوانين الشريعة الإسلامية.
أعود إليها بالتفصيل في المقال القادم.

الثلاثاء، 13 أبريل 2010

الشريعة ليست عادلة 7



إذن.
كان حسن البنا يتابع التغييرات التي تصيب مجتمعه ... خائفا.
يرى العالم كما يتمناه، كما يتصوره، ينهار، يتغير يتبدل.
ولأنه لا يريد لعالمه أن يتغير، لا يريد المرأة كما أرادها أتاتورك، سافرة مستقلة متحررة، ولا يريد الدولة كما نظمها اتاتورك، دولة حديثة تقوم على مفهوم المواطنة لا الدين، لكل هذا خرج علينا بفكر حزبه السياسي.
حزب الأخوان المسلمين.
شخص متدين يحاول أن يقف امام زحف الحداثة، فقرر أن يواجهها بفكر جوهره بسيط، إن لم يكن ساذجاً.
وأكاد أجزم أنه لولا الخواء الفكري الذي عاشته مجتمعاتنا في نهاية الستينات والسبعينات بسبب قمع الدولة وبطشها، لما قدُر لهذا الفكر ان ينتشر كما نراه اليوم.
الجوهر كان بسيطاً: "علينا أن نطبق الشريعة في حياتنا".
هذه الفكرة إبتكرها حزب الأخوان المسلمين.
اقول إبتكرها لأن حسن البنا حّولَ "مجموعة من القوانين" كانت تتطور مع الزمن إلى "فكرة مقدسة"، تطبيقها يجعلنا "أشخاصاً افضل"، والمس بها يصبح "مساً بالإيمان ذاته".
لاحظا أنه قبل ذلك لم يفكر أحد في "تطبيق الشريعة" كهدف اسمى للدولة.
كانت الدولة العثمانية ومصر وتونس (بإعتبار ان مصر وتونس حازتا على تجربة راسخة في سيطرة الدولة المركزية) تطبقان هجينا من القوانين، بعضها مستمد من القوانين الرومانية والفرنسية والبريطانية، والبعض الاخر من الفقة الإسلامي، وكانت كلٌ منها تطور فيها بما يتماشى مع الزمن والحاجة.
وهو أمر منطقي. فالقوانين إنما توجد كي تنظم بيئة وواقع الإنسان، ولذا يجب تطويرها وتغييرها بما يتماشي مع ذلك الواقع. ليست مسبوكة من الحجر الصلد، لا يمكن مسها. بل قواعد الهدف منها تنظيم حياتنا بما يتلائم مع العصر الذي نعيش فيه.
الدولة العثمانية بدأت عملياً في علمنة قوانينها قبل إنهيارها بعقود طويلة فيما عرف بحركة التنظيمات الإصلاحية، ومصر مهدت لتطبيق المساواة بين ابناءها بغض النظر عن الدين بسبب القوانين العلمانية التي بدأت في تطبيقها مع حركة محمد علي باشا النهضوية، وباي تونس كان اول من اخرج دستوراً في منتصف القرن التاسع عشر في 1861، قنن فيه مفهوم المواطنة والمساواة.
----
فكرة حسن البنا أرادت ان تتجاهل هذه الحقائق، و ككل الأفكار الشعبوية ظلت بسيطة.
يقول في مذكرات الدعوة والداعية: "إن ما في المجتمع من فساد وشر وسوء، ناتج من تركنا لأحكام الإسلام، وإلى وجوب الدعوة إلى تصحيح هذا الوضع – وإلا كنا آثمين. إن الأمر بالمعروف والنهي عن المتكر وبذل التضحية فريضة وواجب. وأن الطريقة الفردية وحدها لا تكفي".
الفساد والشر والسوء الذي عناه حسن البنا كان يتعلق بتغييرات إجتماعية تلحق بعالمه، المرأة تخرج إلى الحياة من شرنقة الحرملك، وتنزع عنها السواد، والأسر تتنزه في الحدائق، والمقاهي تفتح أبوابها للجمهور، والشباب يقبلون على السينما والموسيقي.
بكلمات اخرى، كل ما له علاقة بالمدنية والجمال والحياة كان مغضوباً عليه من قبل حسن البنا.
وفي الواقع، كان الرجل اميناً مع فكره، فالفكر الديني عندما يتطرف يكره الحياة والجمال والألوان، ويريدها سوداء، حالكة، مكفهرة، غاضبة، متجهمة.
هل نسيتم وجوه علماءنا السلفيين ونظرائهم في إيران؟
حسن البنا كان مقتنعاً أن ما يصفه بالفساد، وأصفهُ انا ببهجة الحياة الحلوة، تجب مواجهته من خلال العودة إلى أحكام الأسلام.
كأن الناس حينها لم يكونوا مسلمين كفاية!
وفي الواقع كانوا مسلمين، وربما عايشوا روحانية لا نعرفها اليوم رغم هوجة التأسلم الشعبي الشرسة التي نشاهدها في كل انحاء البلدان العربية ونراها في مظاهر، مظاهر، مظاهر، لا تعني في الواقع شيئاً.
لكنه لم يكن يريدها روحانية.
المسألة بالنسبة له لا علاقة لها بالإيمان بالله من عدمه. كانت فكرة سياسية، يريد منها وحزبه الوصول إلى السلطة.
ما أراده هو وحزب الأخوان المسلمين من بعده هو دولة دينية، تستبد بالكهنوت، ولذلك كان طبيعياً ان يكمل عبارته اعلاه بالقول إن "الطريقة الفردية في الإيمان لا تكفي". لا تكفي لأنه لا يتحدث عن إيمان بالله. ما يريده هو السلطة والحكم من خلال ما اعتبره هو احكام الله.
لكنه في كل احاديثه ورسائله ظل غامضاً عندما يتصل الأمر بما يعنيه ب"أحكام الله" هذه.
يقول في مذكراته: "نحن مسلمون وكفي، ومناهجنا منهاج رسول الله وكفى، وعقيدتنا متسمدة من كتاب الله وسنة رسوله وكفى".
لم يستطع يوماً ان يّعرف لنا ما يعنيه بالشريعة.
هل هي كل الأحكام الفقهية التي تطورت عبر القرون الأربعة عشرة الماضية؟ هل هي الأحكام الواردة في القرآن والسنة والأجماع والقياس؟ وإذا كان الأمر كذلك، فوفقاً لأي مذهب ؟ هل هي سنية ام شيعية أم زيدية؟ هل تدخل فيها الأحكام الصوفية؟ وإذا كانت سنية فوفقاً لأية مدرسة فقهية ؟ الحنبلي، الشافعي، الحنيفي، ام المالكي؟
لا.
حسن البنا لم يكن يعرف في الواقع عما يتحدث. فالرجل كما قلت لكما لم يكن متبحراً في علوم الدين ولا الدنيا. كان شاباً حاز على دبلوم تعليم متوسط. لكنه كان يؤمن بفكرته البسيطة، وأستطاع ان يجمع حوله مريدين، مثله، يؤمنون بالأفكار البسيطة طالما ظلت عامة.
عامة.
إذا تمعنتما في فكر حسن البنا، وفكر الإخوان المسلمين تحديداً، ثم فكر الإسلام السياسي عموماً، ستلاحظان دوماً أن فكرهم يتحدث بصورة عامة، عامة، عامة.
عامة.
وهو عام عمداً. لأن العموم قادر على دغدغة العواطف الدينية. وقلت سابقاً واكررها من جديد إن شعوبنا طيبة. تحب الله. وتصدق من يحدثها بإسم الله. وتنسى دوماً ان من يحدثها يحدثها بلسانه، وأن الله لا علاقة له بطموح هؤلاء إلى السلطة.
فكرة حسن البنا كانت عامة: "منهاجنا منهاج رسول الله وكفى".
من يجرؤ على الأعتراض على منهاج الرسول الكريم؟
لكن إنظرا إلى الكيفية التي تم بها تحديد هذه الفكرة العامة في الواقع من خلال إجراءات وقواعد مفصلة، وسيتبدى لكما على الفور القيود الصارخة التي تفرضها أفكار حسن البنا العامة والإسلام السياسي على حياة الإنسان، حريته، وعلى مفهوم المساواة والعدالة.
تذكرا ما حدث في غزة بعد وصول حماس إلى السلطة. في البداية كان الناس متحمسين لوصول هذه الحركة بسبب شعاراتها البراقة وفساد حركة فتح. لكن عندما خلت الساحة لحماس في غزة وبدأت في فرض رؤيتها الدينية أدرك الجميع مدى جبروت الحكم الديني، وكيف يزرع الخوف في قلوب الناس، ويخنق حريتهم.
غابت الألوان.
وعندما اختارت الحركة ان تحارب فكرة، انقضّت على عيد الحب.
اليس غريباً ان يخاف هذا الفكر من الحب إلى هذه الدرجة؟
لا. ليس غريباً.
فهو يدرك انه والحب نقيضان.
-----
حسن البنا اختصر كل التاريخ الغني الثري لقواعد الفقه الإسلامي في كلمة واحدة أسماها "شريعة". ومن بعده حمل لواء الشعار كل الحركات الإسلامية وبعض الدول الإسلامية.
لكن الشريعة كما يراها وكما تطبقها كل الأنظمة الدينية الإسلامية اليوم ليست عادلة.
الشريعة، اكرر، ليست عادلة.
اقولها بلا مواربة لأني على قناعة بأن الطريقة المباشرة في التعبير تصل بالمعنى إلى مبتغاه.
واقولها بلا مواربة لأن طريقتنا غير المباشرة في التعبير والرقص حول الحقائق اوصلتنا إلى حالنا اليوم: هوس ديني لا يؤمن بالله، بل بالطقوس والشكليات.
وأقولها بلا مواربة لأنه حان الوقت ان نضع النقاط على الحروف: الدولة الدينية التي تطبق مفاهيم الشريعة على افراد مجتمعها اليوم تنتهك حريات افرادها، وتميز في معاملتها بين مواطنيها، وتقهر المرأة والأقليات الدينية فيها.
هذه الدولة ليست عادلة. ومنهاجها ليس عادلا.
الشريعة ليست عادلة لإنها تقدم مفهوماً دينياً لقواعد قانونية تعكس واقعها الأجتماعي الذي إنبثقت منه، اي في الأغلب القرون الثلاثة الأولى من تاريخ الدولة الإسلامية، لكنها اليوم لا تتماشى مع واقع القرن الواحد والعشرين.
ليس من العدالة اليوم أن نقطع يد السارق، وأن نلحق به عاهة مستديمة.
هذا العقاب يتماشى مع مجتمع القرن السابع الميلادي، لكنه بالتأكيد عقاب بشع اليوم.
وتماماً كما كففنا عن إستخدام الجمال في تنقلاتنا وسفرياتنا بين عواصم الدول، ولجأنا إلى إستخدام الطائرات ووسائل النقل الحديثة دون أن نجد غضاضة في ذلك، حري بنا أن نصل إلى قناعة أن عقاب السارق هو السجن، وان الأفضل بعد ذلك إعادة تأهيله كي يتمكن من الإندماج في المجتمع كعضو نافع من جديد.
قطع يده سيلحق به عاهة مستديمة، لن تمكنه من العمل، وتحوله إلى عالة على المجتمع.
ولأن الأمر كذلك، فيجب ببساطة القول إنه ليس من المنطقي الدعوة إلى تطبيق مثل هذه العقوبات البدنية.
مثل هذه العقوبات عاف عليها الزمان. والكف عن تطبيقها ليس رديفا للكف عن الإيمان بالله تعالى.
في الواقع لا توجد علاقة بين الأمرين.
ألم نكف عن الحديث عن التسري بالجواري وتملك العبيد، رغم ان هذا الحديث موجود في القرآن نفسه؟ اليوم لن يجرؤ شخص، إذا تجاهلنا المهووسيين من السلفيين ممن يعيشون في القرون الوسطى، على الدعوة إلى تملك العبيد.
لا أرى ما يمنع من تبني قوانين وقواعد مدنية تنظم حياتنا بصورة تعكس مفاهيم اليوم للحقوق والحريات.
---
اكره أن يكون حديثي عاماً هو الأخر.
قلت لكما أن قواعد الشريعة المعمول بها اليوم حسب رأيي ليست عادلة.
وكي اوضح موقفي سأضرب لكما مثلاً.
في المقال القادم سأعقد لكما مقارنة بين قواعد الشريعة الخاصة بالمرأة في الأسرة، والقواعد المعمول بها في القانون السويسري للأحوال الشخصية، وهو القانون الذي عُدل في عام 1988 كي يتماشى مع إتفاقية القضاء على كافة اشكال التمييز ضد المرأة الأممية.
بعدها سأسألكما: أيهما اعدل؟
وإلى ذلك الحين، أسألكما التأني في تكفيري.

إلهام مانع

الخميس، 25 مارس 2010

"معاً مع حسن البنا ضد الحداثة"! 6

لم يكن شيخاً.
أعني حسن البنا.
لا.
كما لم يكن إماماً، لا أكبراً ولا أصغرا.
كان معلماً في مدرسة إبتدائية بمدينة الإسماعيلية في مصر..
ووجهته الدينية بدأت عندما أصبح من مريدي شيخ الطريقة الحصافية الصوفية، عبدالوهاب الحصافي. ذاك الذي كان يوصي مريديه دوماً، بألا يرددوا كلام "الملاحدة والزنادقة والمبشرين".
فتأثر الشاب. ثم خرج علينا بحزب سياسي. الأخوان المسلمين.
حسن البنا عاش في بدايات القرن العشرين.
فترة مخاض.
العالم يتغير بسرعة تسرق الأنفاس. الأفكار تتوالد وهي تلهث، ثم ترفس ماكان قبلها كي تحل محلها، عادات وتقاليد تزول، تزيحها انماطٌ اخرى بقيم جديدة، ودول عظمي تتهاوى، لتحل محلها اخرى.
العالم كان يتغير، و يعيش فترة مخاض.
وحسن البنا عايش هذه الفترة. بكل ما فيها من تغيير. بكل ما فيها من تجديد. وبكل الخوف والفزع الذي يثيره التغيير.
بكل الخوف والفزع الذي يثيره التغيير.
----
عايش فترة بدأت فيه نساء الطبقة الوسطي والعليا في مصر في الخروج من الحرملك.
خرجن من الحرملك - تقليد وعادة اخذتها مصر عن أتراك الدولة العثمانية.
يفصل فيها المقتدرون نسائهم ويعزلونهم عن العالم.
كسرن القيد. وبدأن في خلع النقاب. الواحدة بعد الأخرى. خرجن من الظلام إلى الحياة. أردن أن يتعلمن، أردن أن يعيشن. يتنفسن هواءاً طلقاً، ويمارسن دورهن في مجتمعهن.
أردن أن يكَنَ.
ما أجمل الحياة عندما نعيشها.
وأقول المقتدرين من المصريين عامدة.
فالغالبية الساحقة من الشعب المصري، التي كانت تعيش في الأرياف، لم تكن لتفكر في مثل هذا "الترف الإقصائي". في فصل نسائهن في حرملك. ما كانت قادرة على ذلك. فالمرأة والرجل كانا يعملان معاً في الحقل، يزرعان الأرض بأيديهما، ولأنهما جزءاً من الطبيعة، لم يكن من الطبيعي أن ترتدي المرأة الفلاحة رداءا أسوداً يقيد حركتها وهي تعمل، كما لم يكن من الطبيعي أن تغطي وجهها وتخنق أنفاسها، وهي تنحني على الأرض تبذر، تزرع، تسمد، وتحصد. وفوق كل هذا ترعى أسرتها واطفالها.
كانت عادة، عادة غير طبيعية. ضد طبيعة الإنسان. تخنق المرأة. تقيدها في شرنقة. وتمنعها من ان تمارس حياتها كما اراد الخالق لها أن تُمارس. فنبذتها المرأة المصرية الفلاحة.
ما أجمل الحكمة عندما ندركها بالفطرة.
فقط المقتدرون كانوا قادرين على عزل نسائهم. لم يكونوا حكماء. كانوا مقلدين. قلدوا غيرهم دون أن يفكروا. ففرضوا التعاسة على نسائهم.
لكن الزمن كان يتغير، والنساء أدركن بعد أن تعلمن وقرأن أن عزلهن قيدٌ يتناقض مع الطبيعة. وأنها عادة. فقط عادة، يمكن تغييرها، وإدانتها ايضا.
فخلعن النقاب.
---
أنتِ ايضاً قادرة اليوم على خلعه.
أخلعيه أنتِ أيضاً.
وأخرجي إلى الحياة.
وكوني.
كوني ما تريدين.
----
حسن البنا عايش هذه الفترة.
كان يرى تغييراً إجتماعياً يتجسد امام عينيه.
لم ير فقط النساء يخرجن من الحرملك. بل رأى المجتمع كله يتغير.
المرأة تخرج لتتعلم، والأسر معها تتغير.
والقيم تتغير.
فزع يتغلل في نفس حسن البنا. عالمه يتهاوى. يتمدن. الحداثة تمتد إليه. وهو يقف جامداً. لا يريد أن يتغير. لايريد أن يتمدن. يريد عالمه كما كان.
----
الأهم، أن حسن البنا كان يرى العالم السياسي كما فهمه يتهاوى أما ناظريه.
الدولة العثمانية، الخلافة الإسلامية كما كان يسميها، تنهار.
انقسمت اجزاءها، تبعثرت، بعضها استقل، وغيرها إُستعمر، او وُضع تحت وصاية.
والدولة العثمانية نفسها، إنكمشت لتصبح الدولة التركية.
والدولة التركية، أمله، تلك التي كان يأمل أن ترفع لواء الخلافة، رفضت رفع ذلك اللواء. كانت حكيمة هي الأخرى.
أدركت، لحسن حظها، أن الزمان غير الزمان، وأن المستقبل لدولة حديثة، لا لخلافة عثمانية متهرئة متهالكة.
المستقبل للحداثة.
كمال أتاتورك جاء، الغى منصب الخلافة، عزل الخليفة، وأحل محل نظام الخلافة نظاماً جمهورياً يقوم على مبدأ القومية الوطنية: "نحن أتراك. ومسؤوليتنا تجاه وطننا. تركيا".
فتهاوى النظام السياسي الذي اعتبره حسن البنا نموذجه.
كان أتاتورك رجلاً طموحاً لديه رؤية للمستقبل، ادرك أن تركيا التي يحلم بها لن تكون قوية ما لم تكن مهيئة للمستقبل، ولكي تكون كذلك، عليها أن تتبنى نظاماً سياسياً جديداً، يمُكنها من الدخول إلى الحداثة.
فجعل العلمانية أساس الدولة التركية الحديثة.
فَصلَ الدين عن الدولة.
لم يقل للناس كفوا عن الإيمان بالله.
كل ما قاله، ان الدين مكانه الحيز الخاص.
----
أن تؤمن أو لا تؤمن شأنك أنتَ وأنتِ. شأنكما الخاص.
لكن الحيز العام لا يحكمه الدين. الدين ينظم علاقة الإنسان بالله. لكن علاقة الإنسان بالدولة يحكمها القانون. والقانون يجب ان يكون علمانياً كي تستطيع الدولة ان تتعامل مع مواطنيها بحياد، أياً كان هذا المواطن: مسلماً، ملحداً، سنياً، صوفياً، شيعياً، مسيحياً، يهودياً، رجلاً، إمرأة...
المواطنة هي المحك.
لا الدين.
الدين لا يجب ان نقحمه في تنظيم حياتنا السياسية والقانونية والإجتماعية (قوانين العائلة).
مكانه الحيز الخاص. حيث تؤمن أو لاتؤمن. وعندما تضعه في ذلك الحيز، يمكنك بالفعل ان تكتشف معنى الروحانية. إذا رغبت في إكتشاف تلك الروحانية.
----
ولهذا اعتبرُ العلمانية الجوهر الذي لا يمكن الإستغناء عنه لبناء دولة مدنية حديثة.
لا اعتبرها شتيمة. لا اعتبرها بعباً يخيف.
بل أقولها ببساطة: أنا علمانية.
علمانية.
ثم أضيف عبارة :علمانية مدعمة بأحترام حقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين، كي لا نسقط في الفخ الذي سقطت فيه تركيا بعد أتاتورك. كانت علمانية، لكنها لم تحترم حقوق أقليتها الكردية، وكانت شرسة في العقود الأولى في قمعها لحرية التعبير.
----
أتاتورك لم يكتف بذلك.
زاد على ذلك بأن أدرك، وكان على حق مرة أخرى، أن التغيير إلى الحداثة كي يتجسد يبدأ مع المرأة.
منع النقاب.
وسن القوانين، الواحدة تلو الأخرى.
منح المرأة حقوقها السياسية، ثم غير قوانين الأسرة، وحولها إلى قوانين مدنية بعد أن كانت مستمدة من قواعد الشريعة الإسلامية، وتبنى القانون السويسري للعائلة، الذي وإن كان أبوياً في رؤيته وقواعده، إلا أنه مهد الطريق لمفهوم المساواة بين الرجل والمرأة في العلاقات العائلية.
لم يعد من حق الرجل ان يطلق زوجته بكلمات ثلاث: طالق، طالق، طالق.
بل أصبح من حق الرجل والمرأة الطلاق من خلال تقديم طلب إلى محكمة مدنية محايدة.
كمال أتاتورك كان يرى المستقبل بعينيه.
يراه.
وكان يدري أن الدولة العصرية تحتاج إلى إسرة مكونة من رجل وإمرأة، وعددٍ من الأطفال، حبذا لو كانا طفلين.
الدولة القبلية في المقابل، تحتاج إلى رجل واربع زوجات وجيش من الأطفال.
لكن دولة القبائل لا تحمي الإنسان فيها.
دولة القبائل تقتل الإنسان فيها.
ولأن المستقبل للحداثة، أرادها أتاتورك معاصرة.
-----
وحسن البنا كان يتابع كل هذا.
من بعيد.
من مصر.
يرى العالم كما يتمناه، كما يتصوره، ينهار، يتغير، يتبدل.
وهو لا يريده أن يتغير.
لا يريد المرأة كما ارادها أتاتورك.
لايريد الدولة كما نظمها أتاتورك.
لايريد المجتمع والأسرة كما تصورها أتاتورك.
فخرج علينا ببدايات فكر حزب الأخوان المسلمين السياسي.
هو حزب. وسياسي. يستخدم الدين كغطاء. غطاء فقط.
وفكره في الواقع لم يكن أكثر من محاولة يائسة من شخص متدين للوقوف امام زحف الحداثة.
لا يريدها دولة حديثة، لا يريدها وطناً لمواطنين متساويين أمام القانون، تماماً كما لايريدها إمرأة حديثة.
اساس ذلك الفكر كما روج لها حسن البنا تتلخص ببساطة في كلمات ثلاثة: "الشريعة، الجهاد، الأمة، ".
---
في المقال القادم سأبدأ بكلمة الشريعة كما وصفها حسن البنا، ثم اعرض لكما موقفي الذي يتلخص في عبارة "حان الوقت كي نكف عن إستخدام الشريعة في تنظيم شؤون الأسرة والحياة".

إلهام مانع

الاثنين، 1 مارس 2010

الوطن... الإنسان! (5)

من بين المواد التي ادرّسها في جامعة زيورخ مادة "سياسات شبه الجزيرة العربية".
عنوان المحاضرة الثانية فيها هي "التاريخ والأسطورة"! محورها هو عبارة واحدة:"التاريخ يكتبه البشر".
والتاريخ، عزيزتي الشابة عزيزي الشاب، مشكلتنا اليوم.
كيف نقرأ التاريخ؟
في محاضرة "التاريخ والأسطورة" عادة ما اقرأ على طلابي وطالباتي عبارة: "الأسطورة تقول لنا أن الكونفدرالية السويسرية تأسست في عام 1291، لكن الحقائق التاريخية تقول لنا أن سويسرا كدولة بين الدول الأروبية لم تظهر إلى الوجود فعلاً إلا في القرن الخامس عشر".
وهذه العبارة ليست عبارتي بل كتبها الباحث التاريخي السويسري المعروف أورليخ إيم هوف في كتابه "إسطورة سويسرا:الهوية، الأمة، التاريخ، 1291-1991).
امهد لطالباتي وطلابي بهذه العبارة لأن تاريخ شبه الجزيرة العربية كتُب أيضا بصورة تعكس الرؤية الرسمية للدولة، وهذه الصورة لا علاقة لها في احيان كثيرة بحقائق ما حدث فعلاً على أرض الواقع.
لو قرأتما تاريخ المملكة العربية السعودية الحديث كما يدُرس في الكتب المدرسية، ستجدان أن الهدف منه هو أن يخلق علاقة إرتباط بين الحاكم والمحكوم ولكن وفقاً لرؤية محددة: رؤية تصر على أن التحالف القائم بين أسرة آل سعود الحاكمة وإسرة آل الشيخ محمد عبدالوهاب كان ضرورياً لإنقاذ سكان أقاليم المملكة من التردي والضياع والزياغ عن طريق الإسلام "الصحيح".
هذه القراءة للتاريخ تبرر لما حدث بعد ذلك في بدايات القرن العشرين، من غزو لمناطق الإحساء والحجاز ثم عسير ونجران، ولتأسيس المملكة أيضاً.
والسؤال هو، هل كانت اقاليم المملكة فعلاً تعيش في حالة الضياع هذه؟ دعونا نطرح السؤال بصيغة اكثر تحديداً، كيف كان حال منطقة الحجاز قبل ضمها إلى المملكة بعد حصار 1925-1926 ؟ كانت تحت الوصاية العثمانية، وكانت في الواقع قبلة للحجاج المسلمين من كافة ارجاء العالم، وكانت حاضرة مدنية. دعوني اكرر هذه العبارة من جديد: "كانت حاضرة مدنية". ولأنها كذلك ظلت إلى منتصف السبعينات المقر الذي يضم السفارات والبعثات الدبلوماسية العربية والأجنبية. ولأنها كذلك، كان أبناءها (الذين مثلوا الفئة الأكثر تعلماً في المملكة) هم الكادر الأدراي الذي بنيت عليه الدولة السعودية، إلى أن بدأت عملية نجدنة الأدارة في عهد الملك فهد بن عبدالعزيز.
لم تكن وكراً لمشركين.
ولم تكن تعاني من حالة إنهيار اخلاقي وديني.
التاريخ هنا يبدو ملفقاً وفقاً لرواية الدولة الرسمية، خاصة إذا اعتبرت ما حدث من مروعات في الأحساء على سبيل المثال "فتحاً" "إبتهج" به سكان الأحساء من الشيعة.
بالنسبة لهم، كانت نكبة.
والتاريخ هنا يصبح تعدياً على الإنسان، عندما يتعلم الطفل في مدرسته أن مذهب والديه، رافضي ضال كافر، يستحق من يؤمن به القتل.
بنفس النسق، تصر كتب تاريخنا اليمني الحديث على تسمية الحرب الأهلية التي حدثت في صيف عام 1994 على أنها حرب "إنفصال".
"كانت حرب إنفصال، لا حرباً اهلية". هذه هي الرواية الرسمية.
وتصويرها على أنها حرب تهدف إلى إنفصال، يحولها مباشرة إلى حرب بين "حق" و"باطل". في حين ان القول بأنها كانت حرباً اهلية، يضعها في سياقها الطبيعي: حرب بين شريحتين في القيادة الحاكمة للدولة اليمنية الموحدة، اختلفا على إسلوب الحكم، وفلسفة الدولة، وتنازعا في الوقت ذاته على القوة والسلطة، ولم يثق احدهما في الأخر منذ لحظة توقيع إتفاقية الوحدة، ولذا كانت الحرب تحصيل حاصل.
----
إقول لطلابي إنه إذا كان من الطبيعي لكل المجتمعات والدول أن "تختلق" تاريخها إلى "حدٍ ما"، فإن المشكلة في شبه الجزيرة العربية أن هذا "الإختلاق" يمهد في الواقع "لهيمنة" فئة محددة في الدولة على باقي فئات المجتمع.
وهنا المعضلة.
اقول لطالباتي إن من يريد ان يدرس هذه المنطقة عليه أن يدرك حقيقة اساسية، وهي ان كل دول المنطقة (في شبه الجزيرة العربية) دول جديدة. حديثة النشأة. قد تكون مجتمعاتها قديمة، لكنها كدول لازالت جديدة، وإن هذه الجِدة، تفسر الكثير الكثير مما يحدث على أرض الواقع اليوم.
أقول لهن أيضاً ان هذه الدول منذ نشأتها وإلى يومنا هذا تواجه رؤيتين فكريتين، الأولى قومية عربية، تقول بوجود الأمة العربية، والثانية إسلامية عالمية، تقول بوجود إمة إسلامية، وكلتاهما لا تعترفان بوجود هذه الدول بحدودها الجغرافية. وأن هاتين الرؤيتين تمثلان في الواقع محور الأزمة التي تمر بها دول المنطقة: هل هي دول لها حدود جغرافية وسيادة، ويعيش فيها مواطنون ومواطنات متساوون امام القانون؟ أم هي جزء من أمة، بلا حدود، تجمعها قومية أو هوية دينية؟
والمشكلة، أن كلتاهما لا تعترفان بمفهوم الإنسان، وحقوقه.
حقوقه.
كل منها تضع امام الإنسان تصنيفات وتضييقات تنسف مفهوم حقوق الإنسان الذي نعرفه اليوم من جذوره.
الفكر القومي العربي في كل تطبيقاته السياسية التي عرفناها في تاريخنا الحديث كان تجسيداً للحكم الشمولي.
والفكر الإسلامي في تطبيقاته السياسية وتصنيفاته الفكرية لا يعترف بحقوق وحريات الفرد، ويُّعرف الإنسان بأنه ذكرٌ مسلم!
ثم إذّكر طالباتي وطلابي بإن إحتلال العراق للكويت دفع كل هذه الدول، ومعها دول المنطقة العربية الأخري، إلى مواجهة هذا السؤال.
الكويت ادركت أنها وإن كان بعض من مثقفيها يدعمون فكر القومية العربية، وبعض من ناشطيها يدعمون فكر الأخوان المسلمين، إلا أنها أولاً وأخيراً دولة لها حدود جغرافية، وأن هناك شيء إسمه الكويت بالفعل، حتى لو كانت كتب التاريخ لم تأتِ على ذكر إسم الكويت قبل مائتين وخمسين عاماً.
اليوم هي دولة ذات حيز ونطاق، يمثل التعدي عليه من دولة "عربية" او "إسلامية" إحتلالاً.
كان إسمه إحتلالاً، إذا كان لازال لدى البعض شك في ذلك.
ووقف مثقفو الكويت ومعهم ناشطو الأخوان كلهم جميعاً صفاً واحداً دفاعاً عن الكويت، دفاعاً عن وطنهم.
واقول لهما إن بعض كيانات المنطقة ستظل مصطنعة هشة قابلة للإنهيار طالما لم تقر النخبة الحاكمة فيها بأن خلاصها هو في الإيمان بالإنسان في أوطانها.
بالتعامل مع هذا الإنسان، رجلاً كان ام أمرأة، على أنه كيان راشد عاقل، له رأي، ويتمتع بحق الحرية والإختيار.
بالتعامل مع الإنسان في أوطانها على أنه مواطن يقف مع غيره من المواطنين متساوياً امام القانون، بغض النظر عن هويته، دينية كانت، او مذهبية، او عرقية، او لونية، او نوعية (جندرية).
أقول لهما إن دول المنطقة لن تستمر، اكرر لن تستمر، طالما تظن أنها محصنة ضد الديقراطية وحقوق الإنسان.
فأعتمادها على دعم اقلية مذهبية او قبلية يظل هشاً، وبقاؤها مرهون حتماً بدعم كافة شرائح المجتمع.
فالأحرى أن تبدأ بإصلاح نفسها، قبل أن ينقلب شعبها عليها، ويصبح الإصلاح ضمن إطار الدولة الواحدة مستحيلاً.
------
في المحاضرة الأخيرة من مادة سياسات شبة الجزيرة العربية أودع طلابي وطالباتي بعبارة تحذير، أكررها كل مرة:
"ماقدمته لكما في هذه المادة هو قراءة من بين قراءات متعددة للتاريخ السياسي للمنطقة، وهي وإن اعتمدت على مناهج بحث علمية، إلا إنها تظل ملونة بالعدسة التي استخدمها في هذه القراءة، عدسة حقوق المواطن و الإنسان. ولأنها كذلك، فإنها قد تكون متحيزة، متحيزة للإنسان. فلا تأخذا ما درّسته لكما على علاته. لا تصدقاني! بل دققا، وشككا، ثم إنقدا، ولعلكما تصلان إلى رؤية مغايرة لما طرحته في هذا المادة. كلاكما له عقل، إستخدماه".
في نهاية هذه العبارة، ارى الدهشة في عيون طلابي وطالباتي، لكنها دهشة ممزوجة برغبة متجددة في إلاستزادة المعرفية عن المنطقة.
دهشة الذي استفاق. كان يظن أن من أمامه يخرجُ من فمها الحق، وهاهي تقول له: "لا تصدقني. الحقيقة متعددة، أبحث عنها في صورها المتعددة بنفسك. لا تنتظر مني أن القنك المعرفة. فدوري أن اقدم لك إطاراً، تبحث فيه او خارجه، في النهاية، عقلك مادام منهجه علمي سيكون الحكم"!
لم يكن غريباً لذلك ان مجموعات من طلابي وطالباتي عمدت إلى السفر في رحلات بحثية إلى المنطقة. ارادوا ان يعرفوها، ويكتشفوها بأنفسهم.
وفي الواقع، لا أظن انهم كانوا سيرغبون في فعل ذلك، لو أن مضمون ما درسته لهم هو "كراهية المنطقة".
على العكس، في نهاية تلك المادة، يصبح واضحاً جدأً، مدى حبي لهذه المنطقة.
أحبها اخوتي، أحبها.
تماما كما احب لغتي. الرحم.
وهي جلدي، تلتصق بلحمي، أنا منها، لكني اختنق بواقع الإنسان فيها.
ولأني أختنق،
انتقد.
----
في المقال القادم احدثكما عن الخلافة والأخوان. وسأحدثكما عن العلمانية. تلك التي اؤمن بها.
إلهام مانع

الجمعة، 12 فبراير 2010

أمة ٌ تكره؟

أمة ٌ تكره؟
لا تؤمن بالإنسان.
لا تؤمن بالحرية.
و لا تحب.
تكره.
ثم تدعو إلى القتل.
لمَ لا تحُب؟
وإلى أن يأتي يوما تقدرُ فيه على الحب، أهديكما زهرة... بدلا من رصاصة.
---
الكراهية هي عنوان قراءة الإسلام السياسي لتاريخ بلداننا العربية.
كراهية.
وعمياء.
لاتهتم كثيراً بحقائق التاريخ. في الواقع لا ترى داعياً للعودة إلى التاريخ. بل تختلقه إختلاقا، ثم تقدمه لكما، على ورق سوليفان، في طبق فضة، وتؤكد لكما أن التاريخ كان دوماً هكذا. وعليكما، عزيزي الشاب، عزيزتي الشابة، عليكما أن تصدقاه، شئتما أم ابيتما. وإذا ترددتما، إذا قررتما أن تستخدما خلايا عقلكما كما اراد الله لها ان تُستخدم، اعني في التفكير، تصبحان تلقائيا... ملعونان.
فمن لا يصدق الداعين إلى الإسلام السياسي يصبح مكروهاً.
فلا تصدقا.
والأمة هي من جديد المحور لهذه القراءة للتاريخ. يصر عليها فرحين مروجو فكر الإسلام السياسي، وشيوخ بلحيات حمراء، بيضاء، او سوداء، لايهم.
تماماً كما لن يهم كثيراً إذا كانوا سلفيين أو من المتحزبين لله، فالإثنان يتفقان على تقسيم العالم إلى دارين، دار حرب ودار سلام. يقف فيها العالم منقسماً إلى معسكرين: أمة إسلامية، واعداء هذه الأمة.
الأولى ضحية تدافع عن نفسها، والثانية عدوة تكره هذه الأمة.
لكن الطريف، أنهما حتى وهما يروجان لمفهوم الأمة، سيختلفان على طبيعتها.
السلفيون سيقولون إنها إمة سنية، وحبذا لو كانت حنبلية، والأخوان سيطبلون من بعدهم، وعلى رأسهم شيخهم القرضاوي. وشيخ المتحزبين لله، سيرى أنها أمة إسلامية، وسيغض الطرف عن "الإنقسام الطائفي"، لأن "المعركة اكبر من هذه الإنقسامات"، وإن كان لن يمانع كثيراً لو اضفي عليها مسحة "شيعية".
لكن الإثنان سيتفقان على ان "الكافرين" "يستهدفون الأمة الإسلامية"، وأنهم (أي الكافرين)"جندوا لذلك جنوداً متعددة وأجندة متنوعة"، وسعوا بكل ما يستطيعون من قوة إلى أن "يجعلوا المسلمين أقساما متفرقة، وأصنافاً متناحرة، وألواناً متباينة، مستهدفين من خلال ذلك المتمسكين بدينهم".
التاريخ وفقا لهذه الرؤية صيرورة... سلسلة لا تنقطع من الأزمات تعاني منها الأمة.
والأمة دوما ضحية، يستهدفها الأغراب، مسكينة، عانت ولازالت تعاني، من حقد الغريب، كراهيته، ذاك الذي يسعي إلى تدميرها وسحقها سحقاً.
كأن العالم لم يجد غيرننا ليكرهه.
ونحن؟
لا علاقة لنا بالتاريخ. لسنا مسؤولين. كأننا غرباء عن صناعة التاريخ.
وسيقولون أن كل ما نحاول فعله أمس واليوم وغداً لا يزيد عن "الدفاع عن أنفسنا". ولذا "من حقنا أن نقتل ذلك الغريب".
فإنتبها لقراءة الإسلام السياسي للتاريخ. لأنه في الواقع يدفعكما دفعاً إلى القتل، يحولكما إلى مجرمين، بدعوى الدفاع عن "فكرة" إختلقها ثم صدقها.
----
ثم يصرون على أننا أخوه، وينسون وجود الأخوات.
وهذه فاصلة.
ثم يؤكدون على أن الأخوة التي تجمعنا لها لون واحد لا غير.
إما سني حنبلي، او أخواني مسلم، أو شيعي متحزب.
لا يؤمنون بالتعددية، بل يرفضونها رفضاً، ويعتبرون أن تنوع المجتمعات العربية، بين مذاهب واديان وأعراق ولغات مختلفة، أمر مشين، أمر سيء.
و لذلك يكرهون الديمقراطية.
أفضل نظام سياسي وصلت إليها البشرية، يعتبروه بدعة كافرة.
ولو قبلوه فبشروط. وشروطهم تنسف مفهوم الديقراطية من اساسه.
ما يريدونه هو حكم ديني مستبد. حكم بشر، يستخدم الدين كغطاء وذريعة.
لا يحميكَ ولا يحميكِ.
بل ينتهك آدميتكما.
كل ما عليكما فعله هو أن تنظرا إلى نماذج الحكم الديني التي جربناها في تاريخنا الحديث:
طالبان في أفغانستان، حكم المؤسسة الدينية في السعودية وإيران، حكم الشباب المسلم في الصومال، هذا عدا عن الحكم الديني في السودان منذ عهد النميري،
وستدركان أنها والحرية على طرفي نقيض.
الحرية لا مكان لها في رؤية الإسلام السياسي.
حرية الإنسان.
في أن يكون كما يشاء.
----
والتعدد يُعتبر هو الآخر خطيئة.
ومن كان مختلفا، هكذا يرون، يصبح عدواً للأمة.
ولذلك عندما يقرأون التاريخ يحولونه إلى قصة لا علاقة لها بالتاريخ.
سيقولون لكما ان الإسلام كان دائماً واحداً.
رغم أن الأسلام كان دائما متعددا:
متعدداً في المذاهب والفرق: بين سني وشيعي وصوفي، وزيدي وعلوي ودرزي. هذا عدا ان مجتمعاته كانت دائما متعددة في الأديان واللغات والأعراق. أين مكان المسيحية واليهودية و الصابئة والأكراد والأمازيغ من هذه القراءة؟ وفقاً لهذه الرؤية هم ذميون أو فرق ضالة، وكلهم لم يعانوا تمييزاً في مجتمعاتهم، بالعكس، هي تصر على أنهم عاشوا سعيدين راضين مبتهجين في ظل حكم "الدولة الإسلامية". كأن التمييز والتجريح لم يكن، وكأن المذابح التي طالت علويين ومسيحييين ويهود لم تكن. التاريخ كما يقرأوه هنا لا علاقة له بحقائق التاريخ.
ومتعدداًً في العادات والتقاليد: هل لاحظتم الفرق بين إسلام إندونيسيا وإسلام نجد في المملكة السعودية؟
فرق شاسع.
إسلام إندونيسيا، على الأقل قبل أن يمتد إليه مد التأسلم الشعبي والإسلام السياسي، عَكس الطبيعة الأموية الحنونة (من الأم) لمجتمعاته، في حين أن إسلام نجد يُظهر وجهاً قبلياً أبوياً متجهماً، وجهٌ لفحته صحراء قاسية.
فكل مجتمع يتبنى الدين، أيَ دين، ثم يغيره وفقاً لطبيعة الإنسان في هذا المجتمع. ولذا تجدين أيتها العزيزة أن المذهب المالكي السني في الكويت يختلف في مواقفه تجاه المرأة عن المذهب المالكي السني في المغرب. الأول تشّرب بمواقف العشيرة المتشددة من المرأة، والثاني عكس المرونة المنفتحة للمجتمع المغربي المتنوع.
هذه واحده.
----
وسيقولان لكما أن تاريخ الإسلام منذ بداياته أي منذ عهد الرسول الكريم إلى عهد الخليفة الرابع عثمان بن عفان، كان تاريخاً نقياً، واحداً هو الأخر. وسيمرون مرور الكرام على الحروب التي عصفت به، وإذا مروا بها سيفعلون ذلك للتأكيد على أن الصراع كان دائماً بين خيرٍ وشر. وهدفهم في النهاية أن يعودوا بنا إلى ذلك الزمن. يقولون لكما أن هذا الزمن كان نقياً طاهراً، كي يقنعاكما بضرورة العودة بحياتنا إلى تلك الفترة. فلو كان غير ذلك، لأصبح الحديث عن إعادته في زمننا هذا ضرباً من العبث.
وفي الواقع، عزيزي الشاب عزيزتي الشابة، لم يكن ذلك التاريخ نقياً. كما لم يكن واحداً، تماماً كما أن الصراع لم يكن بين خيرٍ وشر.
كان ببساطة تاريخاً إنسانياً.
إنسانياًَ.
عكسته طبيعة الإنسان في تلك الفترة، وطبيعة المرحلة التاريخية التي مر بها.
ولأنه كذلك، تخللته حروب كثيرة، لم يكن الدين فيها إلا هامشاً. في الواقع كانت تلك الحروب قبلية عشائرية، بين بني هاشم وبين بني أمية، بين قريش وبين والأوس والخزرج، وبين هؤلاء وقبائل اليمن.
وكانت الحروب القبلية تهدف إلى حسم أمر واحد فقط، مَنْ مِن هذه القبائل او العشائر سيتحكم في السلطة. الصراع كان على السلطة. لا على الدين. ولذا تقاتلوا وتنازعوا وتناحروا، ولم يمت في فراشه سوى الخليفة أبو بكر الصديق.
الصراع كان دوماَ على السلطة.
اكررها كي ترسخ.
ولذلك ستجدين كما ستجدْ أن ما يسمونه في كتب تاريخنا "حروب الردة"، التي حدثت في عهد الخليفة الصديق، لم يشنها الخليفة لأن القبائل اليمنية رفضت "الإيمان" برسالة الرسول الكريم. في الواقع تلك القبائل قالت إنها مؤمنة برسالة الرسول الكريم. لكنها رفضت "الإعتراف" بسلطة الصديق. وكان هذا حاسماً. ثم اعتبرت ان أبنائها احق بالزكاة التي طالبها بها الخليفة. فحوربت. ولم يكن غريباً ان تجد من رفض هذه الحروب وأعتبرها خطأً. وأول من اعترض عليها هو عمر بن الخطاب.
الصراع إذن كان دوماً على السلطة. والدين كان هامشاًَ. فمن تحاربوا كانوا كلهم يؤمنون برسالة النبي الكريم. فعلام كان القتال إذن؟
ولذا فإن الدعوة إلى العودة إلى عهد السلف الكريم تبدو غريبة حقاً. هل نريد العودة إلى عهد مزقته الحروب والنزاعات؟ ثم إن هذا العهد كان يعكس واقع مجتمع شبه الجزيرة العربية الصحراوي في القرن السابع الميلادي.
واقع كان القتل فيه والغزو وسبي النساء جزءاً من الحياة اليومية.
واقع يرتبط بتاريخه.
هو جزء من تاريخي فلن أنكره.
اتعامل معه من ضمن معطياته.
لا أحكم عليه بمعاييرنا اليوم.
لكني ادين من يدعو إلى العودة إليه اليوم في واقعنا الحالي. فالقتل والغزو وسبي النساء لا محل له اليوم في مجتمعاتنا المدنية الحديثة.
هو إنتهاك لحق الإنسان في الحياة والكرامة والأمان.
لكنهم يسمون "القتل والغزو وسبي النساء" "جهاداً".
و"المجاهد" هنا يدافع عن "الأمة".
فإنتبها لما يطالبانكما به.
وهذه الثانية.
----
الثالثة، ترتبط برؤية الإسلام السياسي للدولة. فهو مقتنع أن الدولة "إسلامية"، و"لا حدود لها". ولو تُرك الأمر له، فإن حدودها هي العالم بأسره. ولذا سيصرخ في وجهكما:" لا تحدثني عن إنتماءك الوطني، حدثني هنا عن إنتماءك الديني! الوطن إنساه. وتذكر أننا مسلمون أولاً، وأخيراً".
الوطن لا يهم كثيرا.
"طز في الوطن"، هكذا قالها مرشد الأخوان في مصر مرة.
فإنتبها لما يقوله.
والأسلام هنا، ذاك الذي يجمع تلك الأمة في كيان واحد، كالعادة، لونه واحد، صوته واحد، ورائحته واحدة.
ياالله يخنقني برائحته.
متطرف، متطرف.
متجهم متجهم.
متعنت متعنت.
معجون بالكراهية.
كراهية الآخر، أياً كان هذا الاخر.
ولذا يكاد يكره نفسه.
وأكاد اجزم أنه لو نزل الرسول الكريم من السماء اليوم، وقال إن الدين كما يفسروه لا علاقة له برسالته، لأعتبروه كافراً.
فأحذرا، وحاذرا، وتمعنا فيما يقولوه لكما.

قراءة الإسلام السياسي للتاريخ تصر على أننا أمة، أمة تحارب.
وترفض أن ترانا كما نحن، متعددين.
وتصر أن لا إرادة للإنسان.
ثم تتعمد قتل حرية هذا الإنسان.
والمحك أنها تؤكد مراراً وتكراراً أن الهوية هي الدين.
لسان حالها: "أنت مسلم أولاً وأخيراً". كررته علينا على مدى العقود الماضية حتى صدقها الكثيرون.
لكن الدين لم يكن يوماً هوية، ايها العزيزان.
الدين لم يكن يوماً هوية.
بل الدين إختيار.
أنا أختار هذا الدين او غيره كي أنظم علاقتي الروحانية مع الخالق. وقد لا اختار أن أدين بأي دين. هي طريقة. ليست هوية.
ولذا لا تسموني مسلمة، فالدين ليس هويتي. بل وسيلتي إلى الخالق.
والهوية معقدة، متشابكة، لكن روحها إنسان.
الهوية إنسان.
إنسان.
إنسان يحب.
لا يكره.
فأبحثا عنه فيكما، وستفهمان.

---
هناك قراءة ثالثة لتاريخ منطقتنا، قراءة إنسانية، أسردها عليكما في المقال التالي.

الجمعة، 29 يناير 2010

لأن الأمة لم توجد قط!

"كلما جاءوا إلى الدكان، تخاصمنا!"
قالها لي منزعجاً. قالها لي متألماَ.
وأبنتي تسألني، لم يشترون من دكانه ما داموا يتخاصمون معه كل مرة؟ وسؤألها في الواقع هو المحك.
مُحدثي يعمل في مطعم صغير لبيع ساندوتشات الدونّر كباب التركية، تشبه الشوارمة، لكن كمية اللحم فيها مخيفة، قنبلة من السعرات الحرارية، لكني أحبها رغم ذلك. أذهب وإبنتي إليه من وقت إلى أخر. فنتحادث. فمادام لساننا عربياً، سيكون من الغريب أن لا نتحدث.
ومُحدثي شاب عراقي. عراقي شيعي. هرب من جحيم الحرب في العراق، عندما كانت الحرب المذهبية لا زالت مستعرة. عراقي سني يقتل عراقي شيعي، وعراقي شيعي يقتل عراقي سني. وهو على قناعة أنه على الرغم من كل الأزمات التي حدثت في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين الديكتاتوري، فإنها تظل أفضل ألف مرة من حكم الرئيس السابق صدام حسين.
محدثي هرب من الموت والحرب. لكنه يظل مصراً على موقفه. هكذا يشعر.
ومن يخاصموه عرب. هكذا وصفهم. سنيون. هكذا وصفهم. يأتون إليه كل مرة، كي يتخاصموا معه. يشترون الساندويتشات، يدفعون ثمنها، ويلعنونه وهم يفعلون ذلك!
لكن، إنتبها لما أقوله الآن، خصامهم كان حول وصف الحرب ب"المذهبية". مخاصموه يصرون أن "أمريكا هي التي زرعت الفرقة والمذهبية في العراق"، وأنها "اشعلت الحرب المذهبية أو الطائفية عامدة متعمدة"، و"ان المذهبية طاريء جديد علي المنطقة".
وينزعجون منه دائما، ويودون دوماً لو يخنقوا صوته عندما يقول "كنا دوما منقسمين"، و"أمريكا ليست من زرع المذهبية والطائفية"، بل "كانت دوما فينا"!
هذه قراءتان للتاريخ. قراءة "مخاصمي محدثي"، تصف موقف اغلبية في المنطقة العربية، تصر على أن تقرأ التاريخ بعيداً عن الحقائق التاريخية لما حدث فعلاً على أرض الواقع. والثانية، قراءة محدثي، التي تعكس رؤية لأقلية أو أغلبية مهمشة تعرف دوما أن الأنقسام كان موجوداً، وأنه لم مزروعاً من قوى خارجية، بل هو خصيصة تميز هذه المنطقة ومجتمعاتها، لكنها هي أول من عاني بسبب القراءة الأولى للتاريخ.
-----
كيف نقرأ التاريخ؟
عندما قلت لكما في المقال السابق أن "الأمة لم توجد قط"، ظن بعض منكما أني أمزح. لست جادة، أو لعل بعضكما همس في نفسه، "هاهي تغالط التاريخ من جديد". وفي الواقع أنا جادة تماماً فيما أقول. فالأمة لم توجد إلا في ذهن من قرأ التاريخ وفقاً لهواه، ورفض أن يراها على تعدديتها و تنوعها. تعددية تجعل من الحديث عن أمة عبثاً.
أعود وأطرح السؤال من جديد "كيف نقرأ التاريخ؟"
قراءة مخاصمي محدثي، هي في الواقع القراءة الرسمية لكثير من الدول العربية، تلك التي نقرأها في كتب تاريخنا.
هل قرأتي تاريخاً للأقباط في التاريخ الذي يُدرس في صفوفنا المدرسية في مصر؟ أي والله لهم تاريخ، تاريخ عريق، وهو جزء لا يتجزأ من تاريخ مصر نفسها، وعمره خمسمائة عام! هل تعرفين شيئاً عنه؟
وهل قرأتَ تاريخاً أو رؤية للدين تعترف بوجود الشيعة في المملكة العربية السعودية؟ كيف يسمونهم في الكتب المدرسية السعودية؟ رافضة! ومصيرهم النار!
وغالبا عندما نتحدث عن المملكة نراها بوجة متجهم سلفي. لكن لو أزلت ذلك القناع سترى تعددية ملونة، بين طوائف سنية شافعية وغيرها صوفية، إضافة إلى الحنبلية الوهابية، وأخرى شيعية جعفرية وإسماعيلية وزيدية. تعددية، تعكس تعدد المناطق التي تتشكل منها المنطقة. لكن القراءة الرسمية للتاريخ في المملكة لاتعترف بهذه التعددية. كأن سكان المملكة لم يكونوا!
وهل قرأتما كتب التاريخ في اليمن، شمالاً أو جنوباً ثم يمناً واحداً؟ كلها كانت ولا زالت تصر على أن ألوان المجتمع المذهبية غير موجودة، شافعية وزيدية وصوفية وإسماعيلية، وأنقسامها القبلي ليس سوى تفصيل. وإذا لم تعترف بوجود هؤلاء كيف ستبني دولة تقوم على مفهوم المواطنة؟ فأساس مفهوم المواطنة، أنك تدرك أن هناك تنوع وإختلاف، تحترمه، وتصر في الوقت ذاته أن الوطن يجمع الكل في بوتقة واحدة. كن ما تكون، في النهاية أنت مواطن.
وماذا عن كتب التاريخ في سوريا؟ هل هناك أي ذكر لوجود الأقلية الكردية؟ أو تاريخ الكنيسة الشرقية بتعدد مذاهبها، ثم ماذا عن تاريخ الطائفة العلوية والدرزية؟ هل يشار إليها في سوريا؟ مجرد الإشارة إليها من فم شخص حسن النية ستودي به إلى السجن.
ولا تنسيا الأمازيغ (البربر كما هي التسمية الشائعة) في بلدن شمال إفريقيا، السكان الأصليين في تلك البلدان، هل تاريخُهم أيضاً يدرس ضمن التاريخ الرسمي لتلك الدول؟
و الأقلية اليهودية؟ تلك التي كانت جزءا من نسيج مجتمعاتنا، ثم طردنا أغلبها بعد تأسيس إسرائيل؟ لو قيل لكما أنهم خرجوا بمحض إرادتهم لأنهم طابور خامس، كما قيل لي من سابق، انصحكما بقراءة كتب تاريخ المنطقة بلغات أخرى غير العربية، وحبذا لو عدتم إلى أرشيف الصحف العربية التي كانت تصدر في تلك المرحلة التاريخية. ستجدون أن أغلبية من الأقلية اليهودية طُردت من أوطانها، وأجُبرت على ترك الغالي والرخيص، وأن من أجبرهم على ذلك هي الدول العربية نفسها وأنظمتها الحاكمة القائمة آنذاك.
بعض هذه الأقلية اليهودية لازال موجودأً في بلداننا. في سوريا، في لبنان، في مصر، في المغرب، في تونس، وبالطبع في اليمن. تصر أنها منا، وأن أوطاننا أوطانها، رغم رفض الأوطان و المجتمعات لها. أي وجود حزين هذا يارب؟ هل نعترف بوجودها؟
لا حظا أني في كل حديثي هذا لا اجد اية مشكلة من وجود هذه التعددية في مجتمعاتنا. ليست مصدراً للفرقة والبلبلة. بل أعتبرها ضرورية.
لأن التعدد والتنوع كان دوماً سمة إنسانية.
كل منا له رأي، أو دين، او مذهب، عرق، او لغة، أو جنس، أو لون.
وهذا التنوع ضروري، بحكم أننا بشر، ولأن الإنسان ولد حراً. هو بالطبع لم يختار العرق أو الجنس أو اللون الذي ولد به. وغالباً ما سيتحدث بلغة محيطه. لكن هذه الخصائص الطبيعية لا تعد إنتقاصاً في شخصه.
هو وهي هكذا.
ولدا هكذا.
وهكذا أقبلهما.
أقبلهما بلا تحفظ.
لا أرى فيهما سوى الإنسان.
بتنوعهما.
وأحترمهما.
أيضاً بلا تحفظ.
وبلا شروط.
لإنهما إنسان. مثلي. مثلكما.
وهما، مثلكما، ولدا أحرارا.
وحريتهما تستلزم إختيارهما للدين الذي يرغباه، وللمذهب الذي يشاءاه، أو للرأي والموقف الذي يفضلاه. في الواقع حريتهما تستلزم حقهما في عدم إختيار أي دين إذا أرادا.
لا أرى مشكلة في هذا التعدد، وأُدين في الوقت ذاته تلك القراءة الرسمية للتاريخ في الكثير من دولنا العربية، لأنها ببساطة لا تريد أن تعترف أن مواطنيها متعددون، وأنهم متساوون أمام قوانينها رغم هذا التعدد.
وتصر على منظور يقول بأن الدولة لها هوية دينية، غالباً ما تكون مسلمة سنية (او غير سنية وتخشى من السنة)، وفي الأغلب تحولت إلى حارس شخصي لمصالح فئة دينية، مذهبية، او قبلية، ولأنها كذلك فإنها ببساطة تفتقد إلى الشرعية، خاصة في نظر مواطنيها "الآخرين" ممن يريدونها أن تكون ممثلة لهم هم أيضا.
يريدونها دولة محايدة.
دولة مواطنين، متساويين أمام القانون بغض النظر عن دينهم مذهبهم قبيلتهم جنسهم عرقهم أو لونهم. أهو كثير ما يطالبون به هنا؟
لاحظا أن هذه القراءة الرسمية للتاريخ لا تقول بالضرورة أن هناك أمة، إسلامية أو عربية. هي فقط لا تعترف بتعدد مجتمعاتها. لكن معظم الدول العربية مدركة تماماً لمعطيات الواقع المجتمعي والسياسي في المنطقة، وأنها دول، ليست جزءاً من أمة، عربية أو إسلامية، وتدري أنها في سياساتها ستتبع حتماً ما تمليه عليه مصالحها الإستراتيجية، كدول ذات سيادة ولها حدود. معظم الدول العربية تدرك ذلك وتمارسه عملياً.

في المقابل، هناك قراءة ثانية للتاريخ.
قراءة الإسلام السياسي.
هي ايضاً ترفض التعددية لكن من منطلق مختلف.
وهي أيضا تقرأ التاريخ كأن التاريخ لم يحدث فعلاً.
قراءة محورها الأمة... أمة تكره!
ولأنها تكره، تدعوكما إلى القتل.
أسرد قراءتها عليكما في المقال القادم.

الثلاثاء، 19 يناير 2010

أمة؟

في البدء كانت الكلمة!
والكلمة كانت إنسان!
والإنسان لا يكره!
.....
دعوني أقص عليكما حكاية قديمة!
حكاية حكيناها ألف مرة، كل قرن، كل عقد، وكل سنة.
نخط سطوراً وكلمات جديدة، ومضمونها ظل هو هو. لا يتغير. كأن قدرنا أن نحيا حياة لا تتغير فصولها.
المضمون كان في كلمة واحدة: "أمة".
هل تذكران؟
كانت "أمة إسلامية"، ثم تحولت إلى "أمة عربية"، ثم عادت لتصبح "إسلامية" من جديد.
لكن هل وجُدت هذه الأمة فعلاً؟

لو طرحت عليكما هذا السؤال، عزيزي الشاب، عزيزتي الشابة، لما ترددتما في الرد: "بالطبع توجد هذه الأمة"!
ستقولان:"هناك امة، وهي إسلامية. هذه حقيقة ساطعة كالشمس".
وغيركما في الأمس القريب كان سيقولان:" بالطبع توجد أمة، وهي عربية، تمتد من بغداد إلى الرباط، هذه حقيقة ساطعة كالشمس".
لكني تمنيت عليكما أن تتحليا بملكتي الشك والصبر معاً.

أن تشكا كثيراً في "الحقائق الساطعة كالشمس"، التي لا تسطع إلا لتغيب بالكذب.
شكا في كل ما يقال لكما، في كتب التاريخ، وفي خطب المساجد، وفي أحاديث شيوخنا، خاصة ذاك الذي يُحني لحيته بالحناء. يعرف نفسه فلا تبتسما.
فليس كل مالقنوه لكما صحيحاً. في الغالب ما قيل لكما لا يمت إلى حقائق التاريخ بصلة.

وأن تصبرا علي، وأنا أتحدث إليكما. لأني لا أتحدث بالرموز. فقط أهيء للنقاش معكما. فحديثي سيكون معكما طويلا في هذه السلسلة. وكما قلت لكما في المقال السابق، أني سأستهل سلسلة "من إجل إسلام إنساني" بالحديث عن الإسلام السياسي. ذاك الذي يدغدغ حبكما لله بحديثه، ثم يأخذكما معه في طريق يدعوكما به إلى القتل والإنتحار. فشكا كثيراً في نواياه، وأطرحا السؤال دوماً "كيف نُقتل حباً في الله؟"، وبأسم مَنْ نقتل؟" ولو طرحتما السؤال بهذه الصيغة، ستكتشفان أنه والكراهية وجهاً واحداً.
هذا الفكر، فكر الإسلام السياسي، يتخذ من كلمة "أمة" محوراً لرؤيته للوجود:
"أمة إسلامية في حالة حرب.
كانت دوماً في حالة حرب.
أمة إسلامية تقف مقاومة ضد الكفار."
وهؤلاء الكفار يشملون بشراً، مثلكما، شاب وشابة مثلكما، يدينان بديانات مختلفة، أو مذاهب إسلامية مختلفة، أو أختارا طريقاً مختلفاً لا يؤمن. هذا حقهما. هما بشر مثلكما، لكنهما يختلفان عنكما، تماما كما تختلفان عنهما. لكن الرحم هو هو: الإنسان فيهما وفيكما.
مسكينة هذه الأمة.
"تدخل في حرب، لتخرج من حرب، لتواجه حرباً من جديد.
وكلها حروب مصيرية.
علينا أن ندخلها أو نموت.
ومن يرفض الدخول فيها نقتله.
من يُشكك فيها يصبح منافقاً."

هكذا يفكرون، وهكذا يقولون.
وسيضربون بي مثلاً. فأنتبها.
سيقولان لكما: "هذه منافقة، باعت نفسها، تكره دينها وأمتها".
هذه إبتسامة، اهديها لكما، كي لا تصدقا.
فأنا أحب الإنسان. هو وطني. وأؤمن بالعقل، هو طريقي إلى الإيمان، و مُصّرة أن الأمة لم توجد قط!
وأؤمن أن الحروب لا تؤدي إلا إلى الخراب. ألم نتعب من الحروب بعد؟
وأن القتل، ينحر الإنسان فينا، وأنه لا توجد قضية في العالم بأسرة اقتل من اجلها. لن أقتل إنساناً من أجل فكرة. فإتركا القتل للمجرمين.
ثم هذه زهرة، أقدمها لكما، كي لا تطعنا في نيتي. فأنا اقف معكما في صف واحد. وأبحث معكما عن طريق لمستقبل تعيشان فيه وأنا وغيري معكما، بكرامة وإحترام رفاهية.
مستقبل يكون لكما.
أنتَ وأنتِ.
مستقبلٌ في وطن لكما.
وطن. ليس أمة.
بل وطن. له حدود. حدود جغرافية. وفي داخله مواطن ومواطنة. يقفان متساويان أمام القانون، بلا تمييز، بسبب الدين، النوع، العرق، أو الهوية.
إنسان يقف أمام قانون يحترم إنسانيته.
ولأني اقص عليكما حكاية، سأخط أول صفحاتها المرة القادمة بحكاية الأمة، تلك التي لم توجد قط!
---
في البدء كانت الكلمة!
والكلمة كانت إنسان!
والإنسان لا يقتل!

إلهام مانع