الجمعة، 17 أغسطس 2012

عن البهائية (1)


دكتورة إلهام مانع؟
جفلت قليلاً.
كنت قد دخلت مطار صنعاء، جواز سفري بيدي، واتجه لاستلام حقيبتي. وإذا بالصوت يحدثني من خلف. ترددت وأنا أسمعه يردد إسمي. اعرف أن صورتي كانت تنشر تباعاً في اليمن كلما نشرت صحيفة النداء مقالي الدوري، وأعرف أيضاً أن ارائي كانت تثير كثيراً من الجدل، ولذا حق لي أن لا أطمئن إلى السؤال.
  لكن الصوت كان مرحباً.

 التفت ووجدت أمامي رجلا شاباً حسن الهندام. "إسمي حامد ثابت"، قال لي مبتسماً. "وانا من قراءك". ابتسمت له وأنا أتفحصه، لم يبدُ لي يمنياً، رغم ملامحه الشرق أوسطيه. "أنا إيراني بهائي"، كأنه يرد على سؤال لم اطرحه.
بهائي.
كان مهماً بالنسبة له أن يحدد أنه بهائي.
وأنا لم اكن اعرف حينها عن البهائية سوى أن اعضاءها يتعرضون للاضطهاد كأقلية بسبب إنتماءهم الديني.
يعمل كمترجم ومستشار سياسي في السفارة الهولندية. وهو صحافي في الوقت نفسه. هو من فتح ملف زواج الطفلات في اليمن بعد أن قدم قضية نجود إلى العالم.
ابتهجت للقائه. جميل أن يعرف الإنسان إن ما يكتبه يُقرأ. والأهم انه يُقرأ من نوعية فريدة كحامد.

ثم انتهى اللقاء.
انا خرجت لأنفذ مهمة العمل التي كلفتني بها الوكالة السويسرية للتنمية. وهو خرج إلى مقر إقامته في صنعاء، وعمله.
بعد ذلك تحولت قضيته إلى قضية حرية. تابعتها.
تعرض بعد انتفاضة الشباب والشابات في فبراير 2011 لمضايقات وتحرش من السلطات الأمنية اليمنية. إتهموه انه هو الذي اوقف المساعدات الهولندية. وهو إتهام لا يظهر سوى عدم دراية وخبرة بالكيفية التي تتخذ فيها الدول قرارتها. بالتأكيد لن تعتمد على رؤية فرد واحد.
ثم طالبوه بالتجسس على من يعمل معه، وعندما رفض، سجنوه، وكادوا أن يرحلوه إلى إيران.
ولو حدث ذلك لتعرض الرجل للتعذيب إن لم يكن القتل.
هو بهائي.
لا تنسيا.
والتمييز الذي تتعرض له الأقلية البهائية في إيران بشع. أعود إلي هذه النقطة فيما بعد.
هولندا تصرفت كدولة متحضرة، ودافعت عن موظفها، واستطاعت في النهاية أن تخرجه من السجن، وتنقله إليها.
لا أؤمن بالمصادفات. اشعر احياناً ان يد القدر تدفعنا أحيانا للقاء اشخاص وافراد لسبب معين. ولقاءي بحامد كان له هدف.

-----

عاد إلي ذلك اللقاء في ندوة عقدها مركز ثقافي في لوتزرن بسويسرا حول كتابي، الذي نشر باللغة الألماني بعنوان "سأكسر جدار الخوف: الإسلام، الغرب، وحقوق الإنسان".
خلال تلك الندوة عبرت عن رأيي أن كل الأديان، بما فيها الإبراهيمية الثلاثة، قدمت في فترة ما من تاريخها رؤية تنتهك حقوق المرأة. الإسلام ليس إستثناءا، وهو ايضاً لن يكون الاستثناء عندما يتعلق الأمر بإصلاحه.
خلال النقاش طلب احد الحاضرين الكلمة. قال لي "إن هناك ديناً واحداً لم ينتهك حقوق المرأة منذ بدايته". نظرت إليه مستفسرة فقال "الدين البهائي". كان سويسرياً بهائيا، جاء مع زوجته لحضور الندوة.
شككت فيما يقول. كلٌ يدافع عن دينه. لكني سجلت ملاحظة ذهنية في عقلي، عاقدة العزم أن أقرأ المزيد عن البهائية.
 "لعله لم يبالغ"، قلت لنفسي.  
لكني انشغلت بين سفر ومحاضرات، وأسرتي.

-------

عدت إلى كتابة سلسلة الإسلام الإنساني. احترام الإنسان، كرامته، إرادته، وحقه في الاختيار هو جوهر مفهوم الإسلام الإنساني. المحبة أساسه. ورؤيته  أن الدين كالشجرة، تنمو وتتطور، ليست حجراً من صلد، نعبده كصنم.
تشعبت خلال السلسلة، واستجابة لتجربة شخصية،  تحدثت عن حقوق الملحدين والملحدات.
فجاءت رسالة من حامد. لم أكن في حاجة إلى أن أتذكره. صورته كانت محفورة في ذاكرتي.
يقترح فيها موضوع  التمييز الذي تتعرض له الأقلية البهائية.
رددت عليه بالإيجاب، لكن الفرصة لم تسنح. الأسباب لامجال للخوض فيها الآن.
ثم بدأ الحديث عن بورما. والأقلية المسلمة في بورما. فقلت لنفسي، "ها قد حانت الفرصة".
وبدأت أقرأ.
فصَعُب علي ما قرأته. صَعُب علي ما يفعله الإنسان ضد اخيه الإنسان باسم الرحمن.

-----

لم يكذب السويسري البهائي. البهائية تدعو فعلاً إلى المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات. تقول إن هذه المساواة هي مبدأ اخلاقي وروحي ضروري من اجل وحدة الجنس البشري والقضاء على الحروب. ورأيها  أن تعليم المرأة سيؤدي إلى إنهاء الحروب بين الجنس البشري والقضاء عليها. لأنها، والكلمات هنا لنبي الدين البهائي بهاء الله، "ستستخدم كامل تأثيرها ضد الحرب ... و(ستكون)عنصراً رئيسياً في تأسيس السلام العالمي.." .

البهائية ديانة تعترف بكل الأديان السماوية، بما فيها الإسلام، وهي خرجت من رحم الإسلام، لكنها تعتبر نفسها ديانة مستقل.

تقول إن كل الأنبياء يتحدثون باسم الرحمن لكن بكلمات ينطقون بها هم، تتماشى مع بيئتهم وتبعاً للزمان الذي يعيشون فيه. ولأن الأمر 
كذلك فإن الرحمن يرسل في كل زمان نبي (او نبيه؟) جديد(ة؟) ليعيد التواصل معه ولكن في صيغة تتماشى مع الواقع البشري المتجدد.
والتجديد يتطلب مراجعة الشرائع التي جاءت بها الأديان، والتغيير فيها على حسب الزمان الذي يعيش فيه الإنسان. منع تعددية الزوجات جزء من هذه المراجعة.

ضمن هذا المنظور، فإن نبي البهائية الذي عاش في فارس في القرن التاسع عشر، ثم نفته السلطات العثمانية إلى بغداد ثم حيفا،  إنما جاء ضمن هذه السلسلة المتلاحقة من الأنبياء. هي مرحلة من مراحلة التطور الروحي التي يمر بها البشر عبر التاريخ ودوام تعاقبها.  
تؤمن البهائية بوحدانية الرحمن، وتصر على وحدة الجنس البشري، وتشير مصادرها على ضرورة أن يتخلى كل مؤمن "عن كل لون من الوان التعصب والخرافات، ويجزم بأن هدف كل دين هو إشاعة الألفة والوئام، ويعتبر اتفاق الدين والعلم أمرأ جوهرياً وعاملاً من أهم العوامل التي تمنح المجتمع  البشري السكينة والاطمئنان وتحمله على التقدم والعمر".

عدد أتباع وتابعات الدين البهائي لا يزيد عن ستة ملايين ينتشرون في كل انحاء العالم، منهم نحو 300 الف في إيران، على حسب كتاب مارجيت واربورج عن التاريخ الاجتماعي للبهائية.  

تم إنشاء المركز الإداري العالمي للبهائية  في حيفا وعكا، بعد أن نفت السلطات العثمانية نبي البهائية إلى تلك المنطقة، التي كانت تحت سيطرتها عام 1868. وكما أن القدس تظل مقدسة للمسلمين والمسيحين واليهود بغض النظر عن الدولة التي تحكمها، فإن ذلك المركز وضريح بهاء الله يظل مزاراً للبهائيين والبهائيات.

----

لاحظا أني عندما أكتب عن البهائية هنا لا أصدر أحكاماً عليها، ولا ألونها بانتمائي الديني.
قرأت عنها، جمعت المعلومات من مصادر متعددة، ولجأت إلى كتابات بحثية باللغتين الإنجليزية والألمانية كي أتأكد من صحة بعض المعلومات. ودونتها. ورغم عقلي الذي يشك دائماً فإن هدفي هنا ليس تشويه هذه الديانة. أردت أن اقدم لكما تعريفاً عنها من منظور اصحابها.   

اصر على تسمية بهاء الله نبياً، لأن المؤمنين والمؤمنات بهذه الديانة يعتبرونه نبياً.
ونحن أيضاً في الدين الإسلامي نصر على تسمية نبينا الكريم، نبياً، ونتألم إذا قرر أتباع ديانة أخرى، أو باحثون وباحثات، تسميته بمصلح اجتماعي.
بالنسبة للمسلمين والمسلمات هو نبي. تماماً هو الحال بالنسبة للبهائيين والبهائيات. بهاء الله هو نبي.

وكي أكون صادقة معكما تعمدت أن أظهر الجوانب الإيجابية في الدين البهائي. لأن هناك فعلاً جوانب مضيئة ورائعة فيها. في الواقع اعجبتني كثيراً من مبادئها، ووجدت تلاقي، استغربت له، بين بعض محاور الإسلام الإنساني، والديانة البهائية. لكن هذا الحديث ليس هدف المقال.

اردت إظهار الجوانب الإيجابية في الديانة البهائية لأننا عندما نتحدث عنها، أو عندما يتحدث شيوخنا عنها، أو تشير إليها وسائل إعلامنا، مع استثناءات قليلة مضيئة، يحولونها إلى شيطان رجيم.

 يعتبرونها جزءاً من مؤامرة صهيونية عالمية ضد الإسلام. كأن العالم لا هم له إلا أن يدبر مؤامرة ضد ديانتنا. يقوم ويصحى وهو يدعو على الإسلام بالدمار. والعكس صحيح.  كم من شيخ يصيح ويصرخ كل جمعة، يدعو على الغير (مسلم من مذهب غير مذهبه) مسيحي يهودي علماني ليبرالي... بالقتل والهلاك.

نذهب للقاء الرحمن في المسجد، فنجد بدلاً من ذلك جيوشاً جرارة من حديث كراهية. كأن الله آلة حرب تقتل خلقه بلا تمييز.
أريد مسجداً يدعو إلى المحبة والرحمة. أريده معبراً عن نور الرحمن. فلا تطفئوا نوره.

هدفي إذن أن أدعوكما إلى الكف عن شيطنة كل ما هو مختلف عن ديننا.
 البهائية ديانة بذاتها.
 وكما أصر أنا على أن يحترم غيري ديني، أحترم أنا الديانة البهائية وأعتبرها مساوية لكل الأديان الأخرى، بما فيها الإسلام.
 وعندما أتحدث مع إنسان بهائي، لا أنظر إلى ديانته، لا أتفحص فيها.
  هو إنسان. احبه وأحترمه لأنه إنسان. نور الرحمن فيه، فكيف أكرهه؟

 لا يهمني أي دين تؤمن به أو تؤمنين به.  كونا ما شئتما، طالما احترمتا حقوق غيركما في الاختلاف.

في منطقتنا، الإنسان الذي يختلف في دينه، مذهبه، جنسه، لونه، فكره...  يعاني كثيراً.
 وحديثي هنا، رجوتكما ان لا تنسيا، يهدف إلى إبراز جوانب من واقع التمييز الذي يتعرض له المواطنون، وتتعرض له المواطنات، "المختلفين والمختلفات" في منطقتنا.

والتمييز الذي تتعرض له الأقلية البهائية بشع.

حديثه يطول، أعود إليه الأسبوع القادم.




الجمعة، 10 أغسطس 2012

ما دمنا نتحدث عن حقوق الأقلية المسلمة في بورما...


أتابع مثل غيري بألم ما يحدث لأقلية الروهينجا المسلمة، في ولاية راخين بدولة بورما.
فالتمييز ضد إنسان، بسبب دينه، أو لأي سبب، ارفضه جملة وتفصيلاً.
هو انتهاك لحق أصيل للإنسان. وُلِد به.
"يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق".  لن أمل من تكرار هذه العبارة، علها تنسل إلى قلوبكن وقلوبكم لتنشر الضياء فيها.
من هذا المنطلق تحديداً أقف صارمة ضد التمييز، أياً كان مصدره.
فالمسألة بالنسبة لي ليست انتماء ديني يدفعني إلى الدفاع عمن  يدينون بملتي.
هو مبدأ. أؤمن به.
التمييز انتهاك. لا أقبل به. أياً كانت جهة التمييز، إنسان، دولة، دين، أو مجتمع.

لكني كما أتابع ما يحدث في بورما بألم، اتابع بتعجب كيلَ شيوخنا ووسائل إعلامنا بمكيالين.
والكيل بمكيالين، كما قلت لكما مرة، خاصية نتميز بها. تفوقنا بها على أمم المعمورة.
لو أدخلوها في خانة ألعاب الأولمبياد، لحصدنا ذهبياتها كلها.
هم يقيمون الدنيا ولا يقعدوها، ويغضبون، و يدينون زاعقين الانتهاكات التي تتعرض لها الأقلية المسلمة في بورما.
وهذا لا غبار عليه.
أنا أيضاً ادين ذلك التمييز.
لكن ما يحرق دمي أنهم يسكتون كالأصنام عندما يتعلق الأمر بالانتهاكات التي تتعرض لها الأقليات الدينية واللغوية والعرقية في مجتمعاتنا في المنطقة.
أعني الأقليات المسيحية، اليهودية، البهائية، العلوية، الإسماعيلية، الشيعية،(والسنية في الدول التي تحكم بها أكثرية شيعية)، والكردية، والأمازيغية، واللادينية، هذا عدا عن التمييز الذي تتعرض له المرأة  والمثليين من الجنسين (نسميهم لواطيين وسحاقيين)...
في الواقع اللائحة طويلة لا يتسع لها هذا المقال.

كل أقلياتنا تنتمي إلى أوطان تصر على أن تسلخها منها. تقول لها "أنت مواطن ومواطنة من الدرجة الثانية، وأحياناً من الدرجة التاسعة.  لا مكان لكما في هذا الوطن!"
شيوخنا ووسائل إعلامنا يحط الصمتُ عليهم، ثم يصفرون، يشخرون، ويشيحون بوجوههم. وعندما يَمنُ الله عليهم بالكلمات، تلتوي ألسنتهم : "عن أية انتهاكات تتحدثين؟ لدينا؟ هنا؟ نحن؟"
بعضهم لا يكتف بالصمت والإنكار. بعضهم يبرر للانتهاكات التي تحدث للأقليات في مجتمعاتنا، ويقدم غطاءاً دينياً لها.
ثم يصر أنها مؤامرة. يقول إن الأقليات لدينا طابور خامس. وأنها جزء من مؤامرة صهيونية إمبريالية لتدمير مجتمعاتنا.
وقد سئمت من أسطورة المؤامرة الصهيونية الإمبريالية التي ما فتئت تلاحق مجتمعاتنا.
أصبحت ماسخة.
شماعة نعلق عليها خطايانا.

لو اردتما الصدق، المؤامرة الوحيدة التي أراها لا تزيد عن مؤامرة صمت شيوخنا ووسائل إعلامنا عن الانتهاكات والتمييز المنهجي المؤسس الذي يحدث للمواطنين والمواطنات في مجتمعاتنا. ثم قبول الأغلبية بتلك الانتهاكات، وهي صامتة.
فالصمت دوماً كان سلاح التمييز.

أقول تمييزا منهجياً ومؤسساً لأن دساتيرنا وقوانينا كانت ولازالت تُشرع للتمييز. بالقانون نميز ضد الإنسان لدينا.
والأدهى أن الدساتير التي نعكف على إعدادها هذه الأيام لا تسعى إلى القضاء على ذلك التمييز. بل تهدف إلى الزيادة في تأطيره والإمعان في التمييز ضد الإنسان.

 في مصر على سبيل المثال يجري الحديث عن مبدأ حرية الأديان محدداً بسقف ثلاثة أديان لا غير،  الإسلام (السني تحديداً كما تحدث مرسي في زيارته إلى المملكة السعودية، والغريب أنه لم يستح وهو يقول ذلك)، والمسيحية، واليهودية.

 كيف نتحدث عن حرية الدين ثم نقول أن الأديان ثلاثة لا غير؟  كيف نوائم بين مفهوم الحرية في أن نؤمن أو لا نؤمن، وبين تحديد ذلك السقف؟ ماذا لو كنت غير مؤمنة بأي دين؟ ماذا لو قررت أن اترك الإسلام وأتحول إلى دين أخر؟ ماذا عن الأقليات الدينية التي لا تنتمي لهذه الأديان؟ ثم ماذا لو كنت بوذية أو هندوسية؟ هل يحق للدولة أن تنتهك حقوقي وتعاقبني لو كنت ملحدة، بوذية، بهائية، هندوسية، شيعية ...أو تحولت من الإسلام إلى دين أخر؟

وأعلم ان البعض منا، وهم كثيرون، سيقولون: "نعم. من حقنا التمييز ضد هؤلاء. لأن ديننا يقول ذلك".
ولذا، أمَّنتكم بالله الذي تقتلون الإنسان باسمه، أن لا تقحموه في تمييزٍ شّرعَ له البشر.
لا تقحموا الله في ممارسات تنتهك كرامة الإنسان.
الله يحب خلقه.
نوره في كل خلقه. فكيف يميز بينهم وبينهن؟
هو أو هي (باعتبار أن الرحمن لا جنس له والصفات التي نستخدمها هي مجازية) لا يريد او لا تريد تمييزاً ضد خلقه/ها.
البشر هي التي تميز. وهي التي تبحث عن تبرير للتمييز. ولذا تقول الله يريد. وهي التي تريد.
ولأن الأمر كذلك، وددت لو نظرتم قليلاً إلى المرآة وأنت تطالبون بورما باحترام حقوق الأقلية المسلمة، ثم تطرحون السؤال: كيف نطالبها باحترام تلك الأقلية لديها، عندما نقول نحن إن من حقنا أن ننتهك حقوق الأقليات لدينا؟

هذا النفاق اصبح سمجاً، لا يحتمل. يثير القرف في الواقع. فالأولى أن نطبق ما نطالب به في مجتمعاتنا. الأولى أن نبدأ بأنفسنا.
 المرحلة الحالية هي مرحلة تغيير، هكذا نقول.
ومادام الأمر كذلك، أحببت أن أفتح معكما ملف الأقليات في مجتمعاتنا. تلك التي تعاني الأمرَّين في مجتمعاتنا.
وهو ملف ختمنا عليه بالشمع الأحمر. وعندما نفتحه، ندور حوله، ولا نجرؤ على النطق به كما هو.
أفتح هذا الملف طواعية، والحديث عنه بصراحة.
وسأبدأ في مقال الأسبوع القادم بالحديث عن الأقلية البهائية.
ولي معها حكاية. سأقصها عليكما.
فانتظراني.

الإنسان فينا خلاصنا


أعطتني بائعة التذاكر... تذكرة!
الكمبيوتر أمامها. هو من يقرر أية تذكرة!
جاءت على لوني: ملونة!
جاءت محددة: ليست بيضاء!
وعلى حسب التذكرة، دخلت إلى متحف التمييز العنصري في جوهانسبرغ، جنوب إفريقيا.
وعلى حسب التذكرة انفصلت عن زميلتي وصديقتي، تلك التي اعتبرتها تذكرتها "أوروبية".
عرق أخر، عرق أبيض. بيضاء.
وهي اضطرت لذلك، ممتعضة، إلى الدخول من ممر أخر. ممر البيض!
ومعي كانت زميلة، أوروبية بيضاء، لكن تذكرتها تقول إنها ملونة! ملونة، غير بيضاء. مثلي. ملونة.
عرقها ادنى؟
في الممر المخصص للملونين، احسست بمعنى التمييز. قرصني، وكاد أن ينهشني.
هناك تبدت منصات ولافتات وصور.
حمامات للملونين، حمامات للبيض، سلالم للملونين، سلالم للبيض. مطاعم للملونين، مطاعم للبيض. كل شيء له لون. الحياة مقسمة على حسب اللون. ومع كل لون يختلف القدر في تراتب هرمي!
أن تكون ملوناً. أسود البشرة، اسمر البشرة. إفريقي، آسيوي، عربي... أن تكون غير أوروبي... يعني أن تكون مقصياً عن الحياة. لا تدخل حيث يدخل الأبيض. لا تأكلي حيث تأكل البيضاء.
ولا تزاوج.
أي زواج؟ بين أبيض وسوداء؟ سمراء وأبيض؟ هل نهرج هنا؟ الحياة مقسمة على حسب اللون، ومن تقاسمه الفراش هو جزء من هذه الحياة.
والفراش لا يعترف بالألوان. في الواقع لا يعترف بأي تقسيم كان. لكنه ظل ملوناً في انقسامه في تلك الفترة في جنوب إفريقيا.
مقصياً، منفية ًمن الحياة! حياة البيض.
------
تمييز ممنهج ضد السود والملونين: نظام كامل، أصبح سياسة دولة عام 1948 ، قام على إقصاءهم وهن من السياسية ومن الاقتصاد.
نظام كامل قام على تهميشهم وهن، واستغلالهن كعمالة رخيصة، ثم عدم إتاحة التعليم لهم ولهن. لأن "الأسود لا يحتاج إلا إلى تعليم يتناسب مع مقدراته"! هكذا قالوا حينها. ومقدراتها على حسب تعريف نظام التمييز العنصري كانت "محدودة". أليس لونه ولونها أسود؟
أسود، ملون!
بشرةٌ لونها يختلف، ونظام دولة كامل يقوم على إقصاء هذا الفرد لا لشيء إلا لأن الله خلقه بلون الأبنوس!
والنظام يحمي بالطبع مصالح اقتصادية، وعنصرية أقلية تصر أنها متفوقة، لا لشيء إلا لأن بشرتها بيضاء.
-----
أبيض، اسود، أسمر، اصفر، إنسان.
اليس كذلك؟
رجل، امرأة، إنسان.
اليس كذلك؟
-----
لم يكن غريباً أن يستخدم هذا النظام تفسيرات دينية لبقاءه.
لم يكن غريباً.
ووجدت نفسي اتنهد "آه" بصوت مرتفع. ثم قلت لنفسي مؤكدة "بالطبع".
قلت ذلك عندما قرأت داخل المتحف عن تفسيرات دينية كاملة للإنجيل الكريم تبرر التمييز ضد الإنسان عندما يكون ملوناً!
التمييز دائما ما نبرره بالدين!
أياً كان هذا الدين!
ولذا كان طبيعياً أن يعتمد ذلك النظام على تفسيرات دينية تقول له وللعالم من حوله إن ما يفعله "يريده الله". ما يفعله هو "تطبيق لإرادة الله على الأرض".
كان طبيعياً لأن مصلحة المؤسسة الدينية في الدول المستبدة المنتهكة لحقوق الإنسان تبدو عادة متسقة مع مصالح النخبة السياسية المسيطرة على الاقتصاد.
في جنوب إفريقيا، حينها، ولدينا اليوم.
الم تلاحظوا ذلك؟ لابد أنكن قد لاحظتن ذلك؟
ثم قلت لنفسي، "أكيد!"
قلت ذلك عندما قرأت عن الحركة الدينية التي انبثقت ضمن الكنيسة في جنوب إفريقيا، من رجال دين بيض في الواقع، تحدت تلك التفسيرات "العنصرية"، وأًصرت أنه لا علاقة لها بالدين المسيحي. وعندما قدمت الأساس الديني لرفض التمييز العنصري، ثم بدأت الأغلبية السوداء تدرك مدى اعتماد اقتصاد الدولة عليها، اصبحت ايام ذلك النظام معدودة. انتهى رسمياً وسياسياً عام 1994.
-----
أبيض، اسود، أسمر، اصفر، إنسان.
اليس كذلك؟
رجل، امرأة، إنسان.
اليس كذلك؟
مسلم، مسيحي، يهودي، بهائي، أحمدي، درزي، علوي، بوذي، هندوسي، ملحد، إنسان أيضاً.
ام ستعترضون هنا؟
-----
من صمم المتحف عرف كيف يغرسنا غرساً في نظام التمييز العنصري. أخرجنا من واقعنا، وجعلنا ندرك ما يعنيه أن يرتبط مصيرنا بلون بشرتنا.
في منتصف المتحف، أجهشت في البكاء. لم أتمالك دموعي. تنهمر وعيوني مبعثرة بين بصمات التمييز والقهر.
كل ما حولي يشير إلى الماضي. بيد ان الماضي ينسل منه الحاضر دوماً، والحاضر نعيش فيه التمييز. يظل باقياً ما بقي الإنسان.
كم من إنسان أهنته اليوم؟ بسبب لون بشرته؟ بسبب دينه؟ بسبب جنسه؟ بسبب فقره؟ بسبب إختلافه؟ ثم بسبب ضعفه؟
بكيت الإنسان فينا.
كل ما حولي ذكرني من جديد بما عرفته منذ زمان بعيد.
بالوحش الذي يربض فينا. في الإنسان.
الوحش فينا الذي لا يجد غضاضة في قهر غيره من البشر. ثم يبرر ما يفعله. ويقول "بل الله يريد!".
ذلك الوحش عرفته منذ زمان. رأيته والتمييز في كل مكان ارتحلت إليه. وأنا ارتحلت كثيراً. رأيته والألم في كل جزء من المعمورة. رأيته في الإنسان أياً كان لونه. أياً كان دينه. أياً كان جنسه.
ولأني عرفته منذ زمان، ولأني رأيته في الإنسان أياً كان، أدركت منذ زمان ما يجمعنا نحن البشر في المعمورة.
أدركت أن الإنسان فينا هو خلاصنا.
الإنسان فينا هو خلاصنا.
نبحث عنه فينا، في كل مكان، في كل مجتمع، في كل دين، وفي كل ثقافة، نُخرجه من حنايا روحنا وضميرنا، كي نقاوم ذلك الوحش فينا.
ثم نبعثه إلى الحياة كي ندحر التمييز. كي نخلق مجتمعاً تُحترم فيه كرامة هذا الإنسان، ليسعد فيه. كي نخلق مجتمعاً حراً.
ولم اعرف مجتمعاً حراً لم يطبق قولا وفعلاً مضمون عبارة واحدة: "يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق".
-----
نولد احراراً متساوين في الكرامة والحقوق، أياً كان لوننا، أياً كان جنسنا، أياً كان ديننا.
------
عندما خرجت من المتحف كنت اختنق.
ابحث عن الهواء.
أريد أن اتنفس.
تحسست روحي، اتأكد أنها لازالت في موضعها. لم تنفر إلى السماء فزعاً من التمييز.
بين اصابعي تذكرة.
جاءت كلوني: ملونة.
مكتوب عليها: ملونة.
كالإنسان: ملونة.
نبهتني.
ذكرتني بذلك الوحش الرابض في نفوسنا.
نبدأ في قهره عندما نتعلم كيف نحب الإنسان ملوناً متنوعاً مختلفاً.