الاثنين، 2 نوفمبر 2009

الكيل بمكيالين

نعيب على الولايات المتحدة أنها تكيل بمكيالين عندما يتعلق الأمر بإسرائيل.

وقولنا صحيح.

نعيب عليها .. وننفر،

ونزعق،

ونجعر بأصواتنا عالية، نشير بأصابعنا العشرة إليها، "أنظروا، هاهي تفعلها من جديد"، "الظالمة"، "الناكرة"، "المخادعة".

نعيب عليها وننسى أن نعيب على أنفسنا.

ألا نفعل الشيء نفسه؟

نكيل بمكيالين، وأحيانا بثلاثة وأربعة.

وعلى حين تُقدم الولايات المتحدة على هذا الفعل عندما يتعلق الأمر بأمن إسرائيل أو بمصالحها كقوة عظمى، فإننا في المقابل أتقنا فن خداع النفس بمناسبة وبلا مناسبة.

أصبح دمنا الذي يجري في عروقنا، والهواء الذي يملأ صدورنا،

أصبح المرآة التي نحدق إليها،

لأننا لا نطيق أن نرى أنفسنا كما هي.

لا نريد أن نراها.

نعيب على فرنسا أنها فرضت على طالبات المدارس من المسلمات خلع غطاء رؤوسهن، وننسى أن الأقليات الدينية لدينا تعاني الأمّرين من سلطان الدولة.

ما رأيكم لو تصفحتم التقارير السنوية لمنظمات حقوق الإنسان عن أوضاع الحرية الدينية في البلدان العربية؟

ستشيحون بأوجهكم، ثم تلعنون: "هاهي مؤامرة جديدة من منظمات الحقوق "الغربية". لكنكم تشدون في الوقت ذاته على أيدي هذه المنظمات "الملعونة"، يوم استماتت في الدفاع عن حقوق هذه الطالبات.

هل يستطيع أي مسلم أن يعلن تغيير ديانته دون أن يواجه عقوبة الإعدام؟ الإعدام لإنسان أراد أن يختار الدين الذي أراده!

أليس هذا حقه؟

ونقول "هذا شأننا". "ما لكم وشأننا".

ثم نلعن سنسفيل فرنسا "الفاجرة"، تلك التي أوهمتنا أنها مهد الحريات.


وهللنا.

هل نسيتم كي أذكركم؟

هللنا يوم فاحت فضيحة سجن أبو غريب.

وهي فضيحة بلا جدال.

لكنا شمتنا وفرحنا، كدنا نخرج من جلودنا ابتهاجاً، وصرخنا بأصوات نافرة "أنظروا ماذا فعلت تلك المدافعة عن حقوق الحريات في العالم"، "أنظروا كيف انتهكت حقوق العراقيين الغلابة.. العراقيين المساكين.. يا حسرة على العراقيين، يعانون الويل تحت ضيم المحتل".

وتناسينا ما فعله معصوم الذكر صدام حسين مع هؤلاء العراقيين. ختمنا على عقولنا ومسحنا شريط ذاكرتنا بأستيكة من العيار الثقيل.

كل فينة وأخرى تخرج علينا أنباء عن اكتشاف مقابر جماعية لهؤلاء العراقيين، نسمع، ونهز رؤوسنا مستنكرين، ثم نصمت.

نصفر، أو نغني، وربما نشخر، ثم نتمتم " دعونا من هذه التفاصيل. ما مضى قد مضى".


وقبل ذلك،ِ يوم كان لا زال جاثماً على قلوب العراقيين، كنا نسمع عن المذابح التي أرتكبها ضد الأكراد، كنا نسمع عن المساجين السياسيين الذين يسومون ألوان العذاب والتنكيل في سجونه، وكنا نسمع عن النساء التي تنتهك أعراضهن من قبل نخبة الرئيس صدام، نسمع عن كل ذلك، ونبرر له: "لا يمكن حكم بلد كالعراق إلا بالسيف والنار"، نقول ذلك ونحن نصفق له كالبلهاء، فرحين بالرجل الذي "صمد ووقف أمام الغرب".

نسينا ذلك، تماماً كما نسينا ملفات حقوق الإنسان لدينا في العالم العربي، تلك التي يندي لها الجبين. لكنها تلاشت فجأة من أذهاننا، كأنها كانت ضرباً من خيال، لم يعد لها وجود.

ولو جاء من يذكرنا همساً: "لكن أليس واقع سجوننا أسوأ مما كان حادثاً في سجن أبو غريب؟"

تخرج ألسنتا من أفواهنا محشرجة الصوت: "أمرك غريب، وهل تقارننا بها يا أخي؟"

لا يهم أن واقعنا أسوأ، لا يهم أن قيمة الإنسان لدينا لا تزيد عن ثمن بعوضة، لا يهم كل ذلك.

المهم هو إن نشفي غلنا في الولايات المتحدة، "تلك القوية الملعونة"، تلك التي "انتهكت حقوق الإنسان".


خداع الذات لدينا متعة، وفن.


نقول إن الإسلام واحد،

ثم نتأفف من الشيعة،

نمتعض منهم،

ونشيح بوجوهنا عنهم وعن "ممارساتهم"،

نمصمص شفاهنا كلما احتفلوا ب"شعائرهم"، ونقول بهّسٍ فحيح: "ليسوا مسلمين فعلاً، يكادوا أن يكونوا مشركين"!.

ثم ندني شفاهنا أكثر إلى أذاننا ونحن نوشوش أنفسنا "كانوا دائماً طابوراً خامساً يعين الفرس علينا".

نقول ذلك، وندير أعيننا مؤكدين إن الإسلام واحد.

لكننا لا نتألم كثيراً أو نتوجع لأوجاعهم.

لا نبكي مع الشعب العراقي كلما فجر إرهابي نفسه بين جموع من شيعة العراق.

هم "ليسوا بشراً فعلاً"، "ليسوا مثلنا"، "كما أنهم ليسوا منزعجين كثيراً من وجود ذلك المحتل البغيض"، "الخونة".

أليس هذا لسان حالنا؟

تخيلوا معي إذن كيف كانت ستكون ردة فعلنا لو أن ضحايا حادثة الجسر كانوا من السنة العرب؟ هل كنا سنصمت عن العزاء كما فعلت معظم الدول العربية، صمتت وهي تهرع في الوقت ذاته مهرولة إلى مواساة أميركا "المحتلة البغيضة" في ضحايا إعصار كاترينا؟


خداع الذات هي ورقة التوت، تلك التي نغطي بها عورتنا.

عورة الخجل من أنفسنا ومن واقعنا المزري، عورة الإحساس بالضآلة والضعف أمام "الآخر"، وعورة الخوف من أن نسمي الأشياء بأسمائها.

عورة لا نريد أن نراها.

ولذلك نلوذ بأصابعنا العشرة،

نرفعها في وجه "الآخر"،

نلعن سنسفيل أجداده،

ثم نتنهد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق