لا مفر من التاريخ، نعود إليه كي نستقرأ وقائع الحاضر! قبل نحو أربعين عاماً، وقفت اليمن على مفترق طريق، وتحديداً عام 1962 في اليمن الشمالي. حينها، حدث إنقلاب عسكري أطاح بنظام إمامي، كان قد أبقى اليمن رهينة في غياهِـب القرون الوسطى وأقام بدلاً منه نظاماً جمهورياً.
ولأن اليمن ظلت، مثلما هو الحال اليوم، مسرحاً لتلاعب القوى الإقليمية ومناوراتها، فقد تحوّلت إلى ساحة لحرب بديلة بين المملكة العربية السعودية ومصر الناصرية.
الرياض، المتحالفة مع الولايات المتحدة، كانت تخشى يومها من إنتشار رياح الفِـكر الثوري الناصري إلى أراضيها، فدعمت القوى المَـلكية بالمال والسلاح. أما القاهرة، التي دأبت على تصدير فكرها القومي العربي، متحالِـفة في ذلك مع الإتحاد السوفييتي، فقد سارعت إلى تأييد الإنقلاب، الذي تمّ في الواقع بمباركتها.
وكِـلاهما، السعودية ومصر، كانا جوهر وجهين لعُـملة واحدة. صحيح أن الأولى كانت تدعم فكرة أمة إسلامية، والثانية تروج لفكرة أمة عربية، لكن طبيعة النظام فيهما كانت متشابهة ومستبدة، لا تقوم على أسس ديمقراطية أو على مفاهيم المواطنة المتساوية. ولذا، فإن الدعم الذي قدّماه كان يشبه نظامهما، لا يؤمن بالتعدّدية الحزبية ولا بمفاهيم الديمقراطية.
واليمن، التي استيقظت للتَّـو من سُـبات طويل، كان عليها أن تبحث عن طريقها، ولم تجده. القوى الجمهورية كانت منقسمة على نفسها، لكنها اتفقت - على اختلاف مشاربها - حينها على الهدف. والهدف يومذاك، كان الإطاحة بالنظام الإمامي: "نقضي عليه ثم نرى ما سيكون".
صمدت تلك القوى أمام حصار شرِس للقوى المَـلكية عام 1967 ثم تمكّـنت من حسْـم المعركة لصالحها (رغم توقّـف الدعم المصري)، التي إنكسر دورها بعد هزيمة 1967 أمام إسرائيل. ولأن الإنتصار أدّى إلى غياب الهدف المشترك، برز الإنقسام الداخلي بين صفوف القوى الجمهورية واضحاً.
إنقسمت القوى الجمهورية إلى تيارين رئيسين:
التيار الأول، تمثل في مشايخ القبائل الزيدية الهمدانية والقوى الإسلامية وقيادات عسكرية، إضافة إلى قوى إصلاحية تقِـف متشككة من "المشروع الناصري القومي" ومضمونه الإشتراكي. دعا هذا التيار إلى تسوية مع القوى المَـلكية بمباركة الرياض وتأسيس جمهورية عربية يمنية "إسلامية عسكرية قبلية".
التيار الثاني تمثل في القوى المؤمنة باليسار الإشتراكي أو القومية العربية، لكن المُـلفت هو أنه عندما ينزع المرء الغطاء الأيديولوجي عن هذا التيار، يجده ممثلا في الواقع للقوى الإجتماعية والمناطق اليمنية التي هُـمِّـشت على مَـر التاريخ الحديث للبلاد، خاصة أتباع سكان المناطق الوسطى اليمنية، التي يدين أغلبها بالمذهب السُـنّي الشافعي. وقد أراد هذا التيار بناءَ دولة حديثة "قومية"، لا طائفية فيها ولا مناطقية. ورغم غياب مفاهيم الديمقراطية عن هذه الرؤية للدولة، إلا أن المؤكد أن مركزية الدولة وقوة مؤسساتها في مواجهة القبائل، كانت محورية فيها.
تحول الإنقسام إلى مواجهة عسكرية حاسمة في شهر مارس 1968، آلت فيها الغلبة إلى التيار الأول. ومع إنتصاره، تبلورت ملامح الجمهورية العربية اليمنية الجديدة - دولة ضعيفة، مؤسساتها هشة - حافظت على الهيمنة السياسية التاريخية للقبائل الزيدية الهمدانية، وتحوّلت مع مرور الوقت إلى إستحواذ لفئة قليلة من قبيلة سنحان الحاشدية على مقاليد السلطة، في ظل تهميش لفئات وشرائح المجتمع اليمني الأخرى.
ما أشبه اليوم بالبارحة!
كان من الضروري إستحضار هذا المفصل من التاريخ اليمني الحديث، لأن اليمن الموحد، يقف اليوم كما الأمس، أمام مفترق طريق جديد وخياره كما البارحة يتعلق جوهراً بطبيعة الدولة التي ستتشكل فيما بعد.
نقطة الإنطلاق تختلف بالطبع. فاليمن بعد أكثر من أربعين عاماً تحوّل إلى دولة فاشلة وضعيفة المؤسسات، نسبة البطالة فيه تصل إلى أكثر من 35% والفساد فيه وبائي وموارده النفطية والمائية شحيحة، ويواجه حركة شعبية تطالب بإنفصال الجنوب من الشمال وتمرد مسلح في الشمال، ذو طابع مذهبي قبلي.
والقوة المحركة للتغيير، اختلفت هذه المرة. شباب وشابات إستنشقوا رياح التغيير والحرية القادمة من تونس ومصر، فقرّروا أن يصنعوا التاريخ في وطنهم. إنتفاضة الشباب جاءت مفاجئة لكل القوى السياسية التقليدية اليمنية. مفاجئة بسبب قوتها ثم بسبب تزايد الدعم الشعبي لها، وهو ما سحب البِـساط من تحت أقدام تلك القوى العتيقة.
المعارضة الممثلة في أحزاب اللقاء المشترك، تذبذت مواقفها في البداية ثم اضطرت في النهاية أن تعلن دعمها لمطالب الشباب. والحراك الجنوبي، تفاجأ هو الآخر بالْـتفاف الكثير من الشباب والشابات من المحافظات الجنوبية حول الإنتفاضة، فاضطر إلى إعلان دعمه هو الآخر لها، وإن كانت بعض رموزه تظل متحفظة ومصرّة على هدف الانفصال. أما الحركة الحوثية، فقد سارعت إلى إعلان دعمها ومشاركتها في الإنتفاضة.
لكن، إذا كانت الإنتفاضة مفاجئة، فإن الشيء المؤكد أن هدفها المُـعلن، الدّاعي إلى إسقاط نظام علي عبدالله صالح، كان قادِرا على توحيد كل هذه الأطياف المتنافِـرة، تماماً كما في الستينات من القرن الماضي: "يرحل ثم نرى ما يحدث بعد ذلك"، وتحديداً، هذه العبارة "ما يحدث بعد ذلك"، تظل هي الشاغل الحقيقي للمتابعين للشأن اليمني.
فالحادث هو أن هناك قِـوى عديدة تسعى إلى توجيه مسار الأحداث الجارية والتأثير فيها بصورة تحدِّد مصير وكِيان التغيير القادم في اليمن. وكما كان الصراع في عام 1967، فإن الصراع الذي بدأ يتبلور اليوم في اليمن، يتعلق تحديداً بطبيعة الدولة اليمنية الجديدة.
الخيارات المستقبلية
أيام الرئيس علي عبدالله صالح أصبحت معدودة. ولعل أكثر من يُـدرك ذلك، هو الرئيس صالح نفسه، خاصة وأن الطريق أصبح مسدودا. فأية مبادرة يتقدّم بها، تجابه برفض قاطِـع من شبابٍ لا يثق بكلمة الرئيس، خاصة وأن الأخير معروف بوعوده التي لا يفي بها.
لكن إنسداد الأفُـق، لا يرتبط تحديداً بشبابٍ يؤمن بتغيير سِـلمي مدني. الخوْف في الواقع يمتزِج بدوافع مَـن بدؤوا يقفزون من القارب بعد أن كانوا جزءا من مكنونه، بدءاً بأبناء شيخ مشايخ حاشد الأحمر، مروراً بالشيخ السلفي عبد المجيد الزنداني وانتهاءً بالجنرال علي محسن الأحمر، الأخ غير الشقيق للرئيس صالح.
دعم هؤلاء "السريع" لانتفاضة الشباب، لا يأتي مفاجئاً لمَـن يتابع الشأن اليمني، لإنه يأتي متّـسقاً مع التقارير التي أشارت إلى وجود صراع شرس حول السلطة بين أركان النخبة الحاكمة، كان مستعرا خلف الكواليس. إنتفاضة الشباب لم تفعل أكثر من أن أخرجتها إلى العلن. وهي وإن اخرجتها إلى العلن، فإنها أظهرت في الوقت ذاته التبايُـن في الرؤى بين التيارات التي تحالفت من أجل إسقاط الرئيس، وتصوّراتها المستقبلية لما يجب أن تكون عليه اليمن.
التيار الأول، ممثلاً في الأحمرين والزنداني، عسكري قبلي سلفي، يدعو إلى إسقاط الرئيس، لكنه في الوقت ذاته لا يدعو بالضرورة إلى تغيير النظام نفسه، بما يعني ذلك إستمرار هيمنة شرائح قبلية عسكرية دينية على الدولة وغياب دور المؤسسات فيها. أما التيار الثاني ممثلاً في الشباب أنفسهم، الذين أطلقوا شرارة التغيير، والكتلة المدنية التي إنضمت إليهم، تدعو كما أشارت في مؤتمرها الصحفي الذي انعقد يوم 24 مارس في صنعاء، إلى قيام "دولة مدنية حديثة ديمقراطية، قائمة على مبادئ العدالة والمواطنة المتساوية، تضمن التمثيل الوطني لكافة اليمنيين واليمنيات، مع إحترام تعدديتهم الدينية والمذهبية والثقافية والإجتماعية والسياسية، والتأكيد على مبدإ الفصل بين السلطات واستقلالية القضاء وسيادة القانون". أما التيار الثالث، فيرتبط ببعض القوى المعارضة التي إنضمت إلى الإنتفاضة، بهدف إسقاط علي عبدالله صالح، وإن كانت تعوِّل في الواقع على شق طريقها المستقل بعد حدوث ذلك.
حالياً يراقب الكثيرمن اليمنيين الوضع، متسائلين عمّا إذا كانت البلاد ستدخل في حرب أهلية جديدة. لكن الحرب التي يتحدّثون عنها الآن، ليست بين المحافظات الشمالية والجنوبية أو مع الحركة الحوثية. الخوف من حرب تندلِـع بين أركان السلطة، يسعى من خلالها الأخ غير الشقيق للرئيس متحالفاً مع التيار السلفي، إلى حسم المعركة لصالحه.
المملكة العربية السعودية في المقابل، تسعى إلى "تسوية" تُـحافظ على طبيعة النظام القائم في اليمن، وبالتأكيد لن تشجع تغييراً ديمقراطياً مدنياً فِـعلياً يوقظ مواطنيها من سُـباتهم. أما الولايات المتحدة، فإن هاجسها هو "تأمين الإنتقال السلمي للسلطة"، خوفاً من دخول البلاد إلى حالة عدم إستقرار تحوِّلها إلى بؤرة جديدة لتنظيم القاعدة، وهو ما يعني أنها ستقبل بأي "تسوية" تضمَـن "إستقرار" الأوضاع في اليمن.
أما شباب وشابات اليمن ومن يدعمهم من الكتلة المدنية، فيُـصرّون على إمكانية إحداث تغيير سِـلمي في اليمن. يحلمون بوطن ديمقراطي مدني، وطن يمنحهم مستقبلاً.
يُعلمنا التاريخ أن الثورات عادة ما تأكل أبناءها. وسيكون من السَّـذاجة أن يتوقع المرء مساراً مختلفاً في اليمن، خاصة مع طبيعة تكوينها القبلي المناطقي المذهبي المتنافر. بيد أن التاريخ نفسه يقول لنا إن المعجزات ممكنة، لكنها لا تتحقق بالتمني، بل بالتخطيط المنسَّـق لها. وطريق اليمن إلى دولة مدنية ذات مؤسسات، سيكون شاقاً وطويلاً، لكنه يبدو اليوم ممكنا بهذا الجيل الشاب.
لذلك، فإن السؤال المطروح اليوم: هل ستُـتاح لهم فرصة التجربة والإختبار في ظل الصراع الشَّـرس بين أركان السلطة العسكرية، القبلية والدِّينية؟
د. إلهام مانع - برن
- swissinfo.ch
مقال ممتاز! يا ليت لو يترجم للإنجليزية
ردحذفتحليل مختصر وممتاز يجب ان يستفيد منه الشباب
ردحذفدكتورة ممكن تحطيلنا لنك للمقال من موقع سويس انفو.
ردحذفبس تعقيباً على ماجاء في المقال بصراحة اذا اعاد التاريخ تكرار نفسه وخسر مناصرو المدنية وعدنا الى دوامة الدولة(الاسلامية العسكرية القبلية) كما وصفتيها, اعتقد ان وقتها لن تكون اليمن البلد التي احب ان اعيش فيها او بتعبير اخر لا اعتقد ان اليمن بهذاالنظام ستعبر عني وعن العديد من الشباب وتمثلهم وتمثل فكرهم. ربما حان الاوان للقبيلة ان تتراجع وتترك الساحة لانه لو ضلت القبيلة تراهن على قدرتها على التحكم في مفاصل الدولة ومرافقها لا اعتقد انه سيبقى لنا اي دولة!
لقد تعلمنا كثيرا من دروس التاريخ ووقفنا ظويلا كى نستفيد . فلكل ثورات ايجابيتها وسلبيتها على المدى القصير او البعيد .. وان ماتكتبية ايتها الأستاذة الفاضلة يعيد تضميد الجراح مع حركات وتورات الشباب الجديد .. والعنيد فى صنع المعجزات كما يريد .. وسيادتك بحسك القومى والوطنى .. كطائر غريد . . يعيد للوجدان .
ردحذفكل الطيور المهاجرة منها البعيد والشريد.. ويجعل الأنسان
اليمنى يراجع حساباتة ويستعيد كل طاقاتة من عطاءٍ وتجديد
ومعذرة يااستاذتى اننى لم تسعفنى الحقنة فى الوريد حيث كنتى تهاتفينى بجوالك اليوم وانا مسرو ر .. سعيد .. كنت اتلقى العلاج اثر حادث سيارتى على طريق مصر اسماعيلية الصحراوى .. وسمعت صوتك ورغم اننى كنت تحت تأثير حقنة .. لكن هاتفك عاجل من شفائى وااسف ان لم تسعفنى كلماتى فساقاى تحت الجبس وكنت اشكو الما فأخذت حقنة فى الوريد وجاءتنى مهاتفتك وكم كنت سعيد ومن اثر المفاجأة الحلوة كنت استعيد الأمل وارسم خطوطا باسمة
لمستقبل مشرق سعيد مفعم بالأمل وقد ارسلت لكى على التو أميل اتمنى ان يصل ولتأكيدة فتحت مدونتكم الرائعة التى تدل على جهد جهيد بقلم محاضرة عظيمة تعرف ما تريد .. فتنسج خيوطا متشابكة من شعاع الشمس المضىء البهيج . لتنثرة على ربيع الثورات لتذدهر بالجديد وتصنع الأمل لكل الدول العربية بما فيهم اليمن السعيد والتى كانت بها اعظم ملكة فى التاريخ (مملكة بلقيس).. وكيف كانت لليمن من حضارات طوال العصر التليد .. وكيف كانت لليمن سطوتها وخيرها
ونهضتها والسد المائى العظيم الذى نبعت فية الخير والنماء والعصر المجيد تحية لكى فقد سردتى ناريخ ليمن بحنكة وحكمة واقتدار يفيد الباحثين وتمنياتى ان تزورى القاهرة فى ةوقت قريب تحياى لكى(ابراهيم خليل-رئيس تحرير جريدة التل الكبير).. وليدة ثورة التحرير.
مقال جدا راااااااائع
ردحذف