لا. لم أبكِ.
بل كنت انشج بالدموع.
والحزن، أيُ حزن؟ حُرقْةٌ.
الروحُ حُرقْةٌ.
فقدُك ليس خبراً، تناولته وسائل الإعلام العالمية بإهتمام.
فقدُك مصابٌ.
فبأي كلمات أنعيك؟
الكلمات تخجل وتتوارى، لا تدري كيف تنعيك.
ولأنها لا تفي بك، الجأتني إلى الصمت.
أي والله، الجمتني. فصمت.
أبكي بصمت، والحزن يرن هو الآخر في نفسي بصمت.
كيف انعيك، إستاذي؟
هل اقول تركتنا، إستاذي المفكر الجليل نصر حامد أبو زيد، بجسدك. لكن روحك وفكرك، بقيا وسيبقيان معنا.
إبن رشد حاكموه، مثلك،حرقوا كتبه وأهانوه، ً كما فعلوا معك، لكن فكره إنتشر، واصبح اساساً لمنظومة فكرية جديدة. كذلك فكرك.
ومن اهانه، من تبجح عند موته، لن يجن سوى الخزي. حتى أمام الموت لا يخجل!
من حاكمك، سيدخل التاريخ لا لشيء إلا لإنه اراد ان يحاكمك . لكن التاريخ سينسى أسمائهم. والمفارقة ان رموز محاكم التفتيش ارادت لك ان تصمت. لكنها نجحت فقط في إيصالك إلى العالمية.
عندما وصلني الخبر كنت في تركيا. وعندما طبعت إسمك باللاتينية في جوجل توالت صفحات التأبين من اشهر صحف العالم، وبالعديد من اللغات. العالم كان ولا يزال يعرف قدرك. والحسرة أن كثيراً من أبناء وطنك، ذاك الذي احببته إلى درجة العشق، لم يعرفوا قدرك إلى يومنا هذا. تماماً كأبن رشد.
كل هذا قيل، وسيقال. لكنه لايفيك. لايفيك. من عَرفَك يدري أن هذه الكلمات لا تفيك.
لأنك لم تكن مفكراً فحسب، كنت إنساناً. ولإنك كنت إنساناً، كنت تخطيء وتصيب، لكنك بقيت دائماً خَيّراً، طيباً، وبريئاً. طيبتك كانت عنوانك. وإبتسامتك كانت روحها.
ولأنك كنت تؤمن بالإنسان في وطنك، بقيت مثقفاً مستقلاً.
أمنت دوماً بحق هذا الإنسان في الوجود بكرامة. تؤمن بضراوة. ولذا كان وجعه وجعك.
فكان لزاماً ان تكون مستقلاً، كي تكون جديراً بإسمك.
مستقلاً.
ليس لديك ما تخسره اكثر من مال لاتريده، ومنصب لا يغريك، وجاه لا يضيرك الإستغناء عنه.
هل تذكر؟ يوم أصريتُ على دفع حساب العشاء في لوتزن بعد أن القيتَ محاضرتك في الحلقة الدراسية التي شاركنا فيها عن الإسلام والحداثة في جامعة لوتزن.
غًلبتك، فقلتَ لي مازحاً: "طيب، سأحرمك من الميراث". فرددتُ عليك بلهجة والدتي: "هو أنتَ حِيلتك حاجة؟"، فضحكت من قلبك. ضحكة الإنسان الصادق المطمئن.
ولذلك كان صوتك مزعجاً للكثيرين.
صوت ضميرنا.
يدفعنا إلى الخجل من انفسنا.
صوت ضميرنا، الشاهد على التغيير الذي شهده عصرنا.
الشاهد على عصرنا.
أنت.
موتك كان مفاجئاً. والموت هو الوجه الآخر للحياة. والله أني اعرف ذلك.
لكنه في حالتك انت، لوعة، فجيعة، وخسارة، أيُ خسارة.
نشيجي اذهل اسرتي. لكن زوجي كان يعرفك هو الأخر، إلتقاك مرة، وسمع عنك مني الف مرة. ولذلك كان يعرف قدرك.
والدموع لذلك قليلة عليك.
صمت، دمع، ونشيج.
ثم بصيص.
كلمات زوجتك القديرة الدكتورة إبتهال يونس كانت البصيص.
قالت لي وهي تبكي فجيعتها في الرجل الذي كان زوجاً، صديقا، وحبيباً لها: "سأحيا كي أجعل إسمه وفكره باقياً".
هي المرأة التي قالت "لا"، لحكم جائر بتطليقها رغماً عنها وعن زوجها.
وهي الشريكة التي قال عنها زوجها في حديث صحافي: "نحن لسنا فقط زوجين، هي إستاذة جامعية، هي مثقفة، وهي ليست فقط زوجة تدعم زوجها، بل هي شريكة تدعم صديق لها".
وهي اليوم، تماماً كيوم صدور الحكم، تُظهر معدنها السامي من جديد.
تقول اليوم "لا" أيضاً.
موتك لن يكون النهاية.
الأمل باق.
لأن الفكر لا يموت.
يبقى.
والفكر مُعدي.
فالفكر لا يومن بالقيود، بالحدود، أو بالخوف، يخرج عن نطاقها، يقدم نفسه في حيز الأفكار، فينتشر في العقول، يتوالد، ويمتزج بغيره، ليخرج عنه فكر جديد، حياة جديدة.
حياتك لذلك تظل، رغم موتك، معنا.
في فكرك.
بيد أن موتك رغم ذلك لايطاق.
لا يطاق.
فبأي كلمات أنعيك؟
---
الصمت يأس.
وخلاصُنا في كسره، والنطق بالفكر كما نؤمن به.
هذا هو طريقنا.
أعود إليكما في المقال القادم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق