صوتها هو أكثر ما يلفت انتباهي وانا أستمع إليها.
صوتها المندهش.
صوت أروى عثمان.
يندهش دوماً كلما طرحت عليها السؤال ذاته. مرتان، مرة في زيارتي الميدانية إلى اليمن عام 2006، ومرة في حديثنا الأخير عبر الهاتف قبل اكثر من شهر.
أسألها: "ما سر كل حرصك هذا على جمع التراث اليمني؟" أسألها وأنا صادقة في حيرتي.
ستفهمون حيرتي عندما تدركون أن اروى عثمان إستثمرت كل ريال جنته بعرق جبينها في جمع الثراث اليمني.
بدأت في جمع موزاييك المقتنيات والازياء الشعبية منذ اكثر من عشرين عاماً.
يوماً بعد يوم، سنة بعد سنة.
كانت تسافر من منطقة إلى اخرى في ارجاء اليمن، من قرية إلى قرية، على حسابها الشخصي، وتجمع، وتجمع، وتدفع من جيبها، وهمُها ان تقتني نماذج من التراث اليمني.
لم تفكر يوماً في أن تدخر مبلغاً لنفسها أو لبنتيها، لم تفكر يوماً ان تشتري لنفسها سيارة، شقة، أو بيتاً، اكتفت باستئجار شقة تبحث فيه عن شرفة تحتسي فيه قهوتها المرة. آه ما اصعب الإنسان عندما يؤمن بهدفه.
الحقيقة أنها لم تفكر إلا في جمع ذلك التراث. ونجحت فعلاً عندما أسست بيت التراث الشعبي، فَخُرها، الذي ارادت أن تحوله إلى متحف شعبي، ولم تندم، رغم غصتها.
"لم كل هذا الحرص على جمع التراث ياأروى؟"
أروى عثمان، الكاتبة، الباحثة، والأديبة. رائدة نسائية يمنية.
"طريقك كان سيكون سهلا لو اخترت مهمة ايسر، لو تحولت إلى هدف اخر.. لو؟"
وهي؟
هي تنظر إلى محدثتها، ودهشتها تسيل من صوتها.
ترد: "تصدقي اني عندما اُسأل هذا السؤال لا أعرف الأجابة. لكن مع الوقت بدأت افهم."
أتذكرون يوم قلتُ يوماً أن "الأسود أصبح لونَ الحياة"؟
تحول إلى السواد مع إنتشار مد الإسلام السياسي، بأطيافه السنية والشيعية. الأسود ينتشر، يكرة الآلوان، يكرة التنوع، ويصر على لون واحد، واحد واحد لا طعم له، يدعو إلى الموت فيتحول إلى الحياة، ويقتلها، ويناشد الإنسان أن ينحر روحه، وعيناه منبهرتان.
وأروى عثمان أنتبهت. أنتبهت إلى أن ألوان التراث اليمني بدأت تختفي.
تقول: " عرفت حينها الجواب على السؤال ‘لماذا؟’ انا نشات وتربيت في منطقة في تعز بالقرب من سوق الصميل، منطقة تراثية، كان فيه دائما كرنفال من الأزياء والرقص والموالد والنساء. كرنفال من الألوان. ومع الوقت بدأت الاحظ أنها تختفي، تذوب، وتتراجع. وتساءلت لم بدأت الورود تختفي؟ فأصبح مثل الهم".
وهمُها اصبح هدفها.
تقول:" اريد أن يرى العالم ألوان تراثنا الزاهية. أريده ان يرى أننا كنا دوماً نحب الحياة، نحبها والوانها المتعددة".
ولأنها أدركت ذلك، لم يكن غريبا أن تتحول هدفاً للهجوم ممن يدعو إلى السواد.
كان طبيعياً ايضاً ان تتعرض للتهديد من سلفيين غاضبين عندما تمكنت في عام 2005 من إنجاز أولى فعاليات بيت الموروث الشعبي في مهرجان المدرهة (الأرجوحة)، تقاليد الحجيج، تقاليد تكاد تندثر، تحتفي بالحجاج بالغناء والأهازيج والمدرهة (الأرجوحة)، ويشترك فيها الرجال والنساء والأطفال معاً.
كنا نغني معاً، لم نر في ذلك جَرحاً في ديننا.
نرتدي ازيائنا الشعبية الملونة، لم نر في ذلك جرحاً في إيماننا.
وكنا نحتفل معا، رجالا ونساء، ولم نر في ذلك هتكا لأعراضنا.
كيف غابت ذاكرتنا؟ ثم كيف زالت الألوان، فأصبح الأسود لون الحياة؟
بيت الموروث الشعبي بقي الدليل على أن التراث اليمني كان دائما ملوناً، متعدداً، محباً للحياة. كان الشاهد. وأروى عثمان نجحت في أن تجعله قبلة للسياح، وتحوله في الوقت ذاته إلى مؤسسة بحثية تعنى بأنتاج الدراسات والبحوث عن التراث والفلكلور والثقافة الشعبية.
ولذا كانت لوعتها فاجعة وهي ترى بيت التراث يختنق أمام عينيها، فالبيت الذي وجدته بعد جهد جهيد، بدأ يتهالك بسبب موقعه المطل على مذابح سوق القاع، محاصر بأكداس القمامة من الأمام، وروائح الذبائح من مواشي ودجاج وأسماك من الخلف، ومهاجم من فئران انتشرت من بيت مهجور قريب.
فاجعة.
الشاهد الحي على تراث يكاد ينقرض، تكالبت عليه القوارض.
فكرت في أن تغلقه أكثر من مرة، بسبب الظروف المادية الصعبة وشحة مواردها.
لكن قلبها لم يطاوعها. فتبحث عن الريال، تجمعه، كي تضعه في البيت من جديد. قربة مخرومة. تحتاج إلى دعم حكومي وغير حكومي.
الدعم الحكومي جاء والحمدلله اخيراً. فشكرا للدعم.
لعله ينصفها.
لعله يمُكنها من أن تجسد حلمها واقعاً إلى متحف عريق يحفظ ذاكرتنا.
ليته يفعل.
فحلمها مرآة لذاكرتنا.
كي لاننسى أننا يوماً كنا نحب الحياة..
ونعشق اطياف الوانها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق